خطبة عن حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم
الخطبة الأولى
إن مقام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عظيم، وإنّ محبتَه ليست كمحبة أي شخص كائناً من كان، ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كمّله ربه الكمال البشري؛ واصطفاه لختم الرسالات؛ وبعثه للناس كافة بالرحمة والهداية، فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم عبادةٌ عظيمةٌ؛ نتعبد بها لله عز وجل؛ وقربةٌ نتقرب بها إلى الله، فهي أصل عظيم من أصول الدين؛ ودِعامة أساسية من دعائم الإيمان؛ كما قال تعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين) [رواه البخاري].
وفي الصحيح أيضاً أن عمر - رضي الله عنه - قال: يا رسول اللّه؛ واللّه لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم : (لا يا عمر؛ حتى أكون أحب إليك من نفسك)، فقال: يا رسول اللّه؛ واللّه لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء حتى من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم : (الآن يا عمر)، إذن محبة النبي صلى الله عليه وسلم من الواجبات العظام على كل مسلم؛ وهي من صميم الإيمان؛ ولابد لهذا الحب أن يكون أقوى من أي حبٍّ لأي مخلوق؛ حتى من حبِّ المرء لنفسه.
عباد الله؛ كيف لا يكونُ صلى الله عليه وسلم أحبَّ الخلق إلينا وهو أحبُّ الخلق إلى الله تعالى؛ فقد اتخذه الله خليلا؛ وأثنى عليه ما لم يثن على غيره من الخلق جميعا. كيف لا يكونُ صلى الله عليه وسلم أحبَّ الخلق إلينا؛ وحبُّه من أصول إيماننا بربنا.
كيف لا يكونُ صلى الله عليه وسلم أحبَّ الخلق إلينا؛ وهو أشرفُ الناسِ؛ وأكرم الناسِ؛ وأطهر الناسِ؛ وأعظم الناسِ في كل شيء.
كيف لا يكونُ صلى الله عليه وسلم أحبَّ الخلق إلينا؛ وهو يحبنا ويشفقُ علينا؛ حتى إنه صلى الله عليه وسلم أرجأ استجابة دعوته شفاعةً لأمته يوم القيامة، يقول تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
كيف لا يكون صلى الله عليه وسلم أحبَّ الخلق إلينا؛ وقد بذل جهده الكبير في دعوة أمته؛ وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
وهنا يأتي السؤال: ما هي دلائل محبته صلى الله عليه وسلم ؛ ومظاهر تعظيمه؛ والتي يجب علينا أن نحققها في أنفسنا وبيوتنا ومجتمعاتنا؟
والجواب:
1- بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم على كل أحد من الخلق، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الحجرات: 1].
2- سلوك الأدب معه صلى الله عليه وسلم ويتحقق بأمور؛ منها:
• الثناء عليه؛ والصلاة والسلام عليه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
• وأيضًا من الأدب معه صلى الله عليه وسلم التأدبُ عند ذكره؛ بأن لا يذكره مجرد الاسم؛ بل مقرونا بالنبـوة أو الرسالـة؛ قال تعالى: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ﴾ [النور: 63] قال سعيد بن جبير ومجاهد: المعنى قولوا: يا رسول الله؛ في رفق ولين، ولا تقولوا يا محمد بتجهم. وقال قتادة: أَمَرَهم أن يُشَرِّفوه ويُفَخِّموه.
• وأيضًا من الأدب معه صلى الله عليه وسلم توقيرُ حديثه؛ والتأدبُ عند سماعه وعند دراسته؛ كما كان يفعل سلفُ الأمة وعلماؤها في إجلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى؛ إن هو إلا وحي يوحى؛ فمقام حديثه مقام عظيم، فالسنة قرينة القرآن في بيان دين الله؛ بل هي المبينة لما أجمل في القرآن، قال صلى الله عليه وسلم : (( ألا إني أوتيت القرآنَ ومثلَه معه)) رواه الإمام أحمد في مسنده.
3- من علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه: تصديقُه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به وعدمُ الترددِ في ذلك، وهذا من أصول الإيمان وركائزه العظام، فهو عليه الصلاة والسلام يخبر بما أوحى الله إليه.
4- اتّباعُه صلى الله عليه وسلم وطاعتُه والاهتداءُ بهديه؛ فطاعة الرسول هي العلامة البارزة لمحبته صلى الله عليه وسلم؛ بل ومحبة رب العالمين، ولهذا قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [آل عمران: 31]، إن الاقتداء به صلى الله عليه وسلم من أكبر العلامات على حبه: قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]؛ فالمؤمنُ الذي يحبُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يتأسى به في كل شيء؛ في عبادته وفي أخلاقه وفي سلوكه وآدابه؛ وفي سائر تعاملاته مع الآخرين. ولذلك فنقول: إنّ مَن يحتفل بمولده صلى الله عليه وسلم أو بهجرته أو بإسرائه لم يبرهنوا على دعواهم محبةَ النبي صلى الله عليه وسلم ، بل فعلُهم هذا يثبت ضعفَ محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، لأنهم يخالفون سنته وهديه ويبتدعون في دين الله. وعلامة المحبة الصادقة له صلى الله عليه وسلم اتباع هديه وسنته وما جاء به.
5- من علامات محبته صلى الله عليه وسلم عدمُ الغلو؛ استجابةً لوصيته، قال صلى الله عليه وسلم : (لا تَطرُوني كما أطرت النصارى ابنَ مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبدُ الله ورسوله) أخرجه البخاري.
6- الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم ونصرتُه، وقد سطَّر الصحابةُ أروعَ الأمثلةِ وأصدقَ الأعمالِ في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدائه بالأموال والأولاد والأنفس. والدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أنواع؛ نذكر منها:
1- نصرة دعوتِه ورسالتِه بكل ما يملك المرء من مال ونفس وجهد ووقت....
2- بالدفاع عن سنته صلى الله عليه وسلم : بحفظها وتنقيحها وحمايتها ورد الشبهات عنها.
3- بنشر سنته صلى الله عليه وسلم وتبليغها. قال صلى الله عليه وسلم : (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها)، وقال صلى الله عليه وسلم : (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه)؛ ولا شك أن خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . أقول ما سمعتم وأستغفر الله..
الخطبة الثانية
روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ أَعْرَابِيَّا قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَتَىَ السَّاعَةُ؟ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) قَالَ: حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ). قال أنس: فما رأيتُ المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء ما فرحوا به، فنحن نحب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ولا نستطيع أن نعمل كعمله؛ فإذا كنَّا معه فحَسْبُنا.
عباد الله؛ إننا لم نشْرُفْ بصحبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ولم نشرف بالجهاد معه؛ ولم نشرف بحماية شخصه؛ لم نشرف بالكفاح معه في دعوته إلى الله؛ لم تكتحل أعينُنَا برؤية وجهه المشرق؛ ومشاهدة سمته وهيئته ووقاره وأخلاقه وتواضعه وحلمه وشجاعته وحسن عبوديته لربه؛ ولم نحضَ بشرف خدمته؛ لم نحضَ بمعانقته؛ لم نحضَ بدعواته المباركة لأصحابه؛ لم نحضَ بالصلاة خلفَه؛ لم نحضَ بسماع صوته بالقرآن؛ لم نحضَ بسماع خُطَبِه؛ لم نحضَ بمجالسه المباركة؛ وسماع حديثه فيها.
ماذا بقي لنا من بركاته عليه الصلاة والسلام؟ بقي لنا الكثير ولله الحمد؛ بقي لنا الإيمانُ به؛ ومحبتُه؛ واتباعُه، والذودُ عن عرضه الشريف، وهذه سنته صلى الله عليه وسلم حفظها الله؛ وذلك من حفظه سبحانه للقرآن فالسنة هي المفسرة للقرآن؛ فعلينا عباد الله أن نحرص على تعلم سنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ وامتثالها والعمل بها في سائر أوقاتنا وأحوالنا؛ وأن نسعى لنشرها وتعليمها؛ لنحظى بمرافقته صلى الله عليه وسلم في جنات عدن.
اللهم ارزقنا إجلالَ نبينا وتعظيمَ هديه وسنته.
اللهم ارزقنا تَعَلُّمَ وتعليم أحاديثه وسنته والعمل بها.
اللهم ارزقنا شفاعته؛ وأوردنا حوضه؛ واسقنا من يده الشريفة شربةً هنيئة لا نظمأ بعدها أبدًا.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد....
اختصار ومراجعة: الأستاذ عبدالعزيز بن أحمد الغامدي
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|