تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ ..)
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 159 - 163].
هذه الآيات نزلت في أهل الكتاب، وكتمانهم شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ومبعثه ودينه، وهي عامة لهم ولغيرهم ممن يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى.
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159].
قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىْ ﴾ "إن" حرف توكيد ونصب ﴿ يَكْتُمُونَ ﴾ يخفون، و"ما" موصولة، أي: إن الذين يخفون الذي ﴿ أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ﴾ من أهل الكتاب وغيرهم مع الحاجة إلى إظهاره.
وقوله: ﴿ مِنَ الْبَيِّنَاتِ ﴾ أي: من الآيات البينات، والحجج القاطعات، والدلائل الواضحات، التي فيها بيان الحق.
وفي قوله تعالى: ﴿ أَنْزَلْنَا ﴾ إثبات عظمة الله- عز وجل، وعلوه على خلقه، وأن القرآن الكريم منزل من عند الله- عز وجل- غير مخلوق، وهكذا غيره من كتب الله- عز وجل- كلها منزلة من عنده- عز وجل- غير مخلوقة.
﴿ وَالْهُدَى ﴾ أي: العلم النافع للقلوب، الذي يهدي إلى الإيمان والعمل الصالح، وهما رأس مال الإنسان في هذه الحياة، وهما اللذان أرسل الله بهما الرسل، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ [التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9]، فالهدى: العلم النافع، ودين الحق: العمل الصالح.
﴿ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ ﴾ "ما" مصدرية، أي: من بعد بيانه وإظهاره، وتفصيله للناس جميعاً.
﴿ فِي الْكِتَابِ ﴾ "ال" للجنس، فالمراد بـ"الكتاب" الكتب السماوية كلها، كما قال تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾ [البقرة: 213]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ﴾ [الحديد: 25].
ويحتمل أن "ال" في الكتاب للعهد الذهني، فيكون المراد بالكتاب: القرآن الكريم.
والمراد بالبيان هنا البيان العام، فقد بيّن الله- عز وجل- الآيات والهدى، وفصّل ذلك لجميع الناس، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، كما قال عز وجل: ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، وقال تعالى: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾ [فصلت: 17]، وقال تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165].
وفي مقدمة من يدخل تحت هذا الوصف اليهود، الذين كتموا ما علموا من كتبهم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وصدقه، وصدق ما جاء به.
وفي حكمهم من كتم من هذه الأمة ما آتاه الله من علم، ولم يقم بحقه، بل جعله مطية للدنيا، وما أكثر هؤلاء، وقد قال سفيان بن عيينة: "مَن فسد مِن علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومَن فسد مِن عُبَّادنا كان فيه شبه من النصارى"[1].
﴿ أُولَئِكَ ﴾ الإشارة للذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى، وأشار إليهم بإشارة البعيد تحقيراً لهم.
﴿ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ﴾ فيه التفات من التكلم إلى الغيبة، وإظهار بدل الإضمار، فلم يقل: "نلعنهم"، والغرض من ذلك تعظيم الأمر وتهويله وتفخيمه.
واللعن من الله هو الطرد والإبعاد عن رحمته.
أي: أولئك الذين يكتمون الذي أنزلنا من البينات والهدى يطردهم الله ويبعدهم عن رحمته وجنته، ويمقتهم.
قال ابن القيم[2]: "فلعنة الله لهم تتضمن مقته وإبعاده وبغضه لهم".
﴿ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾أي: ويلعنهم اللاعنون من الخلق، من الملائكة والإنس والجن وغيرهم، الذين يلعنون من يستحق اللعن، ومعنى اللعن من الخلق: الدعاء بطردهم وإبعادهم عن رحمة الله، ومقتهم وبغضهم لهم.
ويحتمل أن المعنى: ويلعنهم جميع الخلق من الملائكة والإنس والجن، والدواب والبهائم وغير ذلك. قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [البقرة: 161].
وفي هذا من الوعيد والتهديد ما فيه، لمن يكتمون ما أنزل الله، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سئل عن علم علمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار"[3].
وعنه- رضي الله عنه- قال: "إن الناس يقولون: أكثر أبوهريرة. ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت شيئاً، ثم يتلو: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ﴾ إلى ﴿ الرَّحِيمُ ﴾"[4].
وشتان بين من يلعنهم الله، ويلعنهم جميع خلقه، ممن كتموا ما آتاهم الله من علم، وجعلوه مطية لأهوائهم، وحظوظهم الدنيوية، وبين العلماء الربانيين، الذين يستغفر لهم كل شيء، حتى الحيتان في الماء، كما قال صلى الله عليه وسلم: "وإن العالم ليستغفر له من في السموات، ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء"[5].
المصدر: «عون الرحمن في تفسير القرآن»
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|