تفسير قوله تعالى:﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ ه
قال تعالى: ﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ﴾ [ص: 4 - 7].
المناسبة:
هذه الآياتُ حكايةٌ لأباطيلهم المتفرعة على ما حَكَاهُ الله من استكبارِهم وعنادِهم، فبعد أن أخبر عنهم أنهم في عزةٍ وشقاقٍ، أَرْدَفَ بما صدرَ عنهم مِن تعجبهم منه، ونسبتهم السحر والكذب إليه.
المفردات:
﴿ عَجِبُوا ﴾ استغربوا وأنكروا أشد الإنكار، ﴿ جَاءَهُمْ ﴾ أتاهم، ﴿ مُنْذِرٌ ﴾؛ أي: رسول يبلِّغهم عن ربِّه، ويعلمهم ويخوفهم، ﴿ مِنْهُمْ ﴾؛ أي: من جنسهم في البشرية، ونوعهم في العربية والأمية، ﴿ الْكَافِرُونَ ﴾ الجاحدون، ﴿ سَاحِرٌ ﴾ متعاطٍ للسحر، وهو ما لطف ودقَّ وخفي مأخذُه، فالخوارقُ والمعجزات التي يأتي بها محمد صلى الله عليه وسلم من قبيل السحر عند هؤلاء، ﴿ جَعَلَ ﴾ بمعنى: صيَّر، وهي من التصيير في القول والزعم لا في الخارج والوجود.
﴿ إِلَهًا ﴾؛ أي: معبودًا مألوهًا مقصودًا محبوبًا، ﴿ وَاحِدًا ﴾: متفردًا بالألوهية، ليس له شريكٌ فيها، ﴿ عُجَابٌ ﴾ بناء مبالغة من العجب؛ أي: هذا بليغ في النكارة والغرابة، لا يحتمل الوقوع.
﴿ انْطَلَقَ ﴾ ذهب، ﴿ الْمَلَأُ ﴾ الأشراف ووجوه القوم، منهم: أبو جهل، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب بن عبديغوث، وعقبة بن أبي معيط.
﴿ امْشُوا ﴾ أمرٌ بالمشي، وهو نقلُ الأقدام، وقيل: الأمرُ بالمشي هنا لا يُراد منه نقل الخُطَا، إنما معناه: سِيروا على طريقتكم، ودَاوموا على سيرتكم، والانطلاق: الاندفاع في القول، والأولُ أظهرُ للسياق، وهو الذي يدل عليه سبب النزول.
﴿ وَاصْبِرُوا ﴾ احبسوا أنفسكم على عبادة آلهتكم وتمسكوا بها، ﴿ يُرَادُ ﴾ أي: يطلب منا الانقياد له، وأن هذا مِن نوائب الدهر، مراد منا، فلا انفكاكَ عنه، أو أن دينكم يطلب ليؤخذ منكم، ﴿ بِهَذَا ﴾ بالتوحيد، ﴿ الْمِلَّةِ ﴾ الشريعة، ﴿ الْآخِرَةِ ﴾ ملة النصارى، أو قريش، أو اليهود والنصارى، أو الملة التي كنَّا نسمع أنها تكون في آخر الزمان؛ إذ لم يذكر لهم أنها تدعو إلى التوحيد، ﴿ إِنْ ﴾ بمعنى: ما، ﴿ هَذَا ﴾ أي: الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم، ﴿ اخْتِلَاقٌ ﴾ أي كذب وافتراء.
التراكيب:
الواو في قوله: ﴿ وَعَجِبُوا ﴾ للاستئناف، والضمير في (عجبوا) يعود إلى كفار قريش المفهومين من المقام، و﴿ أَنْ ﴾ مصدرية، وهي مع مدخولها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر مقدر بمن أو اللام، و﴿ مِنْهُمْ ﴾ في محل رفع صفة لمنذر، والتنوين في ﴿ مُنْذِرٌ ﴾ للتعظيم، كمثله في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ﴾ [فاطر: 42]، والواو في قوله: ﴿ وَقَالَ ﴾ للعطف؛ أي: عطف جملة على جملة، وأصلُ السياق يقتضي أن يُقال: (وقالوا)، ولكنه عدل عن ذلك ووضع الظاهر موضع الضمير، فقال: ﴿ وَقَالَ الْكَافِرُون ﴾ تنبيهًا على الصفة التي أوجبت لهم العجب، حتى نسبوا مَن جاء بالهدى ودين الحق إلى السحر والكذب، وإيذانًا بأنه لا يتجَاسَرُ على مثل هذا إلا المتوغلون في الجحود والكفران، وجملة ﴿ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ في محل نصب مقول القول، وكذلك الجملتان بعدها، وإنما ترك العطف بين جملة ﴿ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ وجملة ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ﴾ ؛ لأنَّ بينهما كمالَ الانقطاع؛ إذ الأولى خبرية والثانية إنشائية، وكذلك ترك العطف بين جملة ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ﴾ وجملة ﴿ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ للحال نفسها، فالأولى إنشائية والثانية خبرية، وترك العطف لا يوهم خلاف المراد، والهمزة في ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ ﴾ للاستفهام التعجبي بمعنى كيف.
والواو في قوله: ﴿ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ ﴾ للاستئناف، و﴿ مِنْهُمْ ﴾ في موضع نصب على الحال من الملأ، و﴿ أَنِ امْشُوا ﴾ يجوز أن تكون (أن) مصدرية؛ أي: انطلقوا بقولهم: ﴿ أَنِ امْشُوا ﴾ ، ويجوز أن تكون مفسرة لـ﴿ انْطَلَقَ ﴾؛ لأنه ضمن معنى القول؛ لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم مِن أن يتكلموا، وقيل: بل هي مفسرة لجملة محذوفة في محل نصب على الحال مِن الملأ أيضًا، والتقدير: وانطلقوا يتحاورون؛ أي: امشوا، وقيل: لا حاجة إلى التقدير ولا التضمين؛ لأن الانطلاق هنا الاندفاع في القول والكلام؛ نحو: انطلق لسانه، فـ(أن) مفسرة له، وقوله: ﴿ عَلَى آلِهَتِكُمْ ﴾ ؛ أي: عبادتها، فهي على حذف المضاف.
وقوله: ﴿ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾ تعليل للأمر بالصبر، والإشارة راجعة إلى ظهور محمد صلى الله عليه وسلم وتألِيه إله واحد، المفهوم من السياق.
المعنى الإجمالي:
واستغرب هؤلاء وأنكروا أشدَّ الإنكار لمجيء رسول عظيم يبلغهم عن ربه، ويعلمهم ويخوفهم، وهو من جنسهم في البشرية، ومن نوعهم في العربية والأمية، وقال هؤلاء الجاحدون: إنه يأتي بالخوارق بواسطة تعاطي السحر، وهو مُفْتَرٍ كثيرُ الكذب، وكيف يُصَيِّرُ المعبوداتِ الكثيرةَ معبودًا واحدًا، فينفي الألوهية عنها، ويقصرها على إله واحد؟ إن تأليهَ إلهٍ واحدٍ لشيء بليغ في العجب.
واندفع أشراف قريش من مجلس أبي طالب يتحاورون؛ أي: امشوا وسيروا، أو اندفعوا في الكلام؛ أي: امشوا واثبتوا على طريقتكم، واحبسوا أنفسَكم على عبادة معبوداتكم، إنَّ ظُهورَ محمد صلى الله عليه وسلم لَأمرٌ يتطلب منا الانقياد له، أو إن هذا أمر ابتلينا به، وهو مراد منا فلا انفكاك لنا عنه، أو إن دينكم يطلب ليؤخذ منكم، ما سمعنا بالتوحيد في شريعة النصارى، أو في دين آبائنا أو في شريعة اليهود والنصارى، أو في الشريعة التي حدثنا بها الأحبار؛ فإنهم لم يذكروا لنا التوحيد، وإنما ذكروا أن نبيًّا يبعثُ آخرَ الزمان، ما هذا الذي جاء به محمدٌ إلا كذب وافتراء!
ما ترشد إليه الآيات:
1- استغرابُ الكفارِ مَجِيءَ الرسول منهم.
2- وأن سببَ هذا الاستغراب هو الكفر.
3- وأن الكفرَ لا يأتي بخير.
4- وأن الدين الشائعَ عند ظهورِ الرسولِ هو الشركُ.
5- مبالغةُ الكفارِ في إنكار التوحيد.
6- تواصِي الكفارِ بالتمسك بالشرك.
7- تكذيبُ القرآنِ ودعواهم أنه سحر.
8- اضطرابُ الكفارِ في وصف محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|