من فضائل خديجة رضي الله عنها
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما غِرْتُ على أحدٍ من نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ما غِرْتُ على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكثر ذكرَها، وربَّما ذبح الشَّاةَ، ثم يقطعها أعضاءً، ثم يبعث بها في صدائق خديجة، فربَّما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة! فيقول: ((إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد))"؛ رواه الشيخان، واللفظ للبخاري[1].
أعزُّ البيوت وأكرمها وأسعدها:
.. نحاول هنا - بعون الله وتوفيقه - أن نُجَلِّيَ في شيء من البَسْط والتفصيل خُلُقَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في بيته، ومع أزواجه أمَّهات المؤمنين واحدةً واحدة؛ ليعلم من لم يكن يعلم أنَّ بيوت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم - على تواضعها وكَفَافِ عيشها - أعزُّ البيوت وأكرمها، وأسعدها في الآخرة والأولى.
أساس السعادة الزوجيَّة:
وأنَّ السعادة الزوجيَّة ليست في زينة الحياة الدنيا ومتاعها، وإنما هي في كَرم المُعاملة، وحُسْن المُعَاشَرة، ومكارم الأخلاق وطهارتها، ثم ليعلم من لم يكن يعلم أنَّ سيِّدَ الأزواج جميعًا، والمثلَ الأعلى في الوفاء للناس عامة، ولأزواجه خاصَّة، هو مَنْ بَعَثه الله لِيُتَمِّمَ مكَارمَ الأخلاق.
أوفى الأزواج:
هو سيِّدُ الأزواج وأوْفَاهم بلا رَيْب؛ سواءٌ منهم من اقْتصر على واحدة، أم مَنْ زاد عليها في حياتها أو بعد مماتها، وهو مصداق قوله صلوات الله عليه وسلامه: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم))[2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((خياركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي))[3]، رواهما الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وصحَّحهما.
أساس معاملته صلى الله عليه وسلم:
ومردُّ هذا المَثَل الأعلى في الوفاء والفَضْل إلى أنَّ معاملته صلى الله عليه وسلم - للناس عامَّةً ولأزواجه خاصَّة - لم يَبْنِها قطُّ على أساس المنفعة العاجلة أو المتعة الزائلة، فإنَّ هذه معاملة التجَّار، لا معاملة الأبرار، فَضْلًا عن معاملة المُصطفين الأخيار، وإنما أساسُها الفضيلة في أَوْج رِفعتها، والمكارم في ذِرْوة سنامها.
سيِّدة الزوجات:
وإذا كان صلوات الله وسلامه عليه هو السِّيدَ الأول للأزواج جميعًا، فإنَّ كلَّ زوج معه - منفردة به أو ذات ضَرَّة أو ضرائر - سيدة للزوجات كلهنَّ، على ما يعتريها من غَيْرة تزلُّ الحليم الرشيد أحيانًا، وحاشاه صلوات الله عليه وسلامه.
على أنَّ كلَّ واحدة منهنَّ قد استمدَّت هذه السيادة الزوجيَّة أو جانبًا منها - من مَعدِن المكارم، ويُنبوع الفضل والفضيلة، صلوات الله عليه وعلى سائر النبيِّين إخوانه.
أحد عشر:
لقد بنى الله بمحمد صلى الله عليه وسلم وأهله للعالمين أحد عشر بيتًا، هي في حقيقة الأمر - لا مجازه - أحد عشر كوكبًا تختلف عن كواكب السماء الدنيا، بأنها لا تأفل أبدًا، وبأنَّ ليلها كنهارها، تهدي السَّائرين على ضيائها في الدُّجُنَّةِ[4] الحالكة، كما تهديهم في الشَّمس المُشْرقة على سواء.
وإذا كان من حقِّ الإنسانية على النَّاس كافَّةً أن يستضيئوا بكواكبها، فأحقُّ هذا الحقِّ وأوجبه على أقرب الأقربين إليها، وهم خير أمَّة أُخرجت للناس، ولا سيما المعنيين منهم بالشؤون الاجتماعية والحياة الزوجيَّة في هذه الأيام.
إنهم إن استضاؤوا بها، فسوف يُخَفِّفون مِن غُلَوائهم.. وسيعلمون حقَّ العلم أنَّ الشأن إنما هو شأنُ التربية المنزلية، والحياة الزوجية، في حدود ما أنزل الله؛ من إمساكٍ بمعروف، أو تسريحٍ بإحسان، ومن الزواج بواحدة أو أكثر من واحدة، ما قامت الحياة على أساس العدل ومكارم الأخلاق.
بيت النبوَّة الأوَّل:
والآن فلنبدأ بالبيت الأول: بيت أمِّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها؛ لأنه أعرق البيوت فَضْلًا ونُبلًا، وأسبقها تاريخًا وزمنًا، ولأنه الذي قدَّمه الله لنبيِّه وادَّخره له، لِيُواجِهَ به أحْرَجَ الأوقات وأشدَّ الأزمات!
خديجة رضي الله عنها:
كانت تُدعى في الجاهلية: الطاهرة، كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُدعى الأمين، اختصَّ كلٌّ منهما بلقبه لبلوغه الغاية فيه، وكانت إلى مكارمها النادرة، ونفسها الطاهرة، ذات مَجْدٍ تليد، وثراءٍ عريض، وعقلٍ راجح، وفهمٍ راسخ، وبصرٍ بالأمور عَجَب.
وحَسْبُكَ أنَّ السَّادةَ من العرب، كانوا يزدادون شَرفًا بالزواج منها أو الانتماء إليها، حتى حَظِيَ بهذا الشرف اثنان: أبو هالة النبَّاش من سادة بني تميم، وعتيق بن عائذ القرشي من سادة بني مخزوم، وقد ماتا عنها كلاهما، أحدهما بعد سابقه، من بعد أن أعقب الأول منها هندًا - وهو رجل صحابي - وأعقب الثاني منها هندًا - وهو رجل - وهالة.
أكرم زوج وأعظم أم:
ثم زهَّدها الله في الرجال على شدَّة رغبتهم فيها، حتى إذا بلغت أشُدَّها واسْتَوَتْ، وبلغت أربعين سنةً، فأضْحَت أكرمَ زوج، وأعظم أم، وأعقل وزير وأخلصه في النُّصح والصحبة، رغبت هي في أن تكون زوجًا لسيِّد الأزواج، بل لسيِّد ولد آدم جميعًا.
هكذا تفرَّسَت، وهكذا صَدَّق الله فِراسَتَها، فأعدَّها لأمرٍ عظيم، لم تكُ تصلح إلا له، ولم يكُ يصلح إلا لها.
مُثُلٌ من المَكارم العليا:
لا نريد أن نتقصَّى تاريخ هذا الزواج المثاليَّ مبدأً ونهايةً، فقد كفتنا مؤونة هذا التقصِّي صِحَاح السيرة والشمائل.
وحَسْبُها فَضْلًا ونُبْلًا أنها كانت أسرع الناس إلى هواه، ولا يهوى إلا الخير خالصًا، وأنَّها أوَّل مَنْ آمن به، واستجاب لدعوته، وأوَّل من بشَّره وثبَّته في رجْفة الوحي؛ إذ رجع بالآيات الأولى من غار حراء يرجف فؤاده، وتَضْطرب بوادره[5]، حتى دخل على الزوج الحنون، والأم الرؤوم، وهو يقول: ((زمِّلوني زمِّلوني، لقد خَشِيتُ على نفسي)).
وأخبرها الخبر، ويا لَهُ من خبر، فما كان جوابها إلا أن قالت: "كلا، أبْشر، فوالله لا يُخْزيك الله أبدًا، فواللهِ إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِم، وتَصْدِقُ الحديث، وتحمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المعدوم، وتُقْري الضيف، وتعينُ على نوائب الحق"[6]، ثم انطلقت به إلى ابن عمِّها ورقة بن نوفل، فأكَّد بشارتها، وصدَّق فراستها، في حديث الصحيحين، وهو أشهر من أن يُذكر[7].
قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة المحمدية خمسة عشر عامًا، يعدل كل يوم منها دنيا الأمانة والطهارة، والبرِّ والوفاء، وما شئتَ من خلال الفَضْل والنُّبل، وكلٌّ منهما لذلك مَوْئل وأهل، ثم قَضيا بعد البعثة عشرة أعوام كاملة، كلُّ يوم منها من أيام الله، فلا يَقْدر قَدْرها، ولا يُحصي ثناءها، إلا هو سبحانه، تباركت آلاؤه، وجلَّت نعماؤه.
وهنا نرجو قبول المعذرة، إذ نُمسك بالقلم بعد هذه المقدِّمة التي لا بدَّ منها... وعسى الله أن يأتيَ بفتح من عنده، وعَوْن على البيان بإذنه، وموعدنا الجزء التالي إن شاء الله.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|