سمات القرآنيين
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
من خلال تتبع واستقراء تصرفات القرآنيين في إنكارهم للسنة النبوية تبيَّن بأنَّ من أبرز سِماتهم المُشتركة ما يلي[1]:
السِّمة الأُولى: جهلهم بالعلوم الشرعية:
مما لا شك فيه أننا في عصر التخصُّصات، حيث إنه اتِّساع العلوم وكثرتها وتشعُّبها أصبح من الصعب؛ بل من المستحيل على شخص الإحاطة بفروع العلم، بل إنَّ التخصص الواحد أصبح ينقسم في داخله إلى تخصُّصات عدَّة، وأصبح كلُّ جزء فيه يحتاج إلى مختصِّين، والكارثة تحدث عندما يتدخَّل أحد الأفراد في غير مجال تخصُّصه.
لكن يبدو أن العلم الشرعي أو الديني وأخص به الإسلام أصبح مُشَاعاً لكلِّ مَنْ أراد أن يكتب فيه أو يتكلَّم به، دون دراية أو علم، خاصة وقد أُفسِح المجال سواء في الفضائيات أو شبكات التواصل أو من خلال المؤلَّفات التي ليس عليها رقيب، فادَّعى مَنْ شاء ما شاء، فغُرِّر بالسُّذَّج ممَّن يسمعون لهم أو يقرؤون.
ومن بين هؤلاء مَنْ يُطلَق عليهم لقب "القرآنيين"؛ حيث إنهم يُهاجمون السُّنة في كلِّ محفلٍ ويُنكرونها ويرفضونها معلِّلين ذلك بحرصهم على القرآن الكريم، وهم في سبيل تأكيد هذا الحرص أطلقوا على أنفسهم لقب "القرآنيين".
والمُتتبِّع لهم يجدهم لا يعلمون شيئاً من السنة النبوية ولا يعرفون قدرها، فلا يستطيع أحدهم أن يُفرِّق بين معنى الصحيح والضعيف، أو بين المُتَّصل والمنقطع، أو بين الحسن لذاته والحسن لغيره، أو بين المسند والمرسل، أو بين الصَّدوق والثقة، إلى آخر مصطلحات علوم الحديث وعلم الجرح والتعديل؛ وذلك لجهلهم بها وفَقْر بضاعتهم فيها.
فهم بعيدون كل البعد من ذلك؛ فمنهم: مَنْ هو كاتب أمام محكمة، ومنهم: مَنْ دراسته في الهندسة، ومَنْ دراسته في التجارة، ومَنْ دراسته في الفلسفة، ومَنْ يعمل بالقانون، ومَنْ كان يعمل في العسكر. وباحترام التخصص فهؤلاء لا قيمة لرأيهم، بل كان الأحرى بهم ألاَّ يكتبوا؛ فإنَّ كلَّ عِلْم يؤخذ من أهله، يعرف ذلك كل عاقل.
ويبدو أنهم يُختارون بعناية؛ بحيث تتوافر فيهم صفات تُعَمِّي على المسلم العامي، أو الذي لا يعرفهم؛ فهذا ابن شيخ كبير، وآخر شقيق داعية فاضل!
ويحملون ألقاباً تتفق مع ألقاب العلماء، فيكون أحدهم حاصلاً على "دكتوراه" في علم غير علوم الإسلام، أو يحمل لقب أستاذ، فيلقب نفسه بـ "دكتور" أو "أستاذ دكتور" مما يجعل بعض الناس يظن أنه يحمل "الدكتوراه" أو "الأستاذية" في علوم الإسلام.
ولو أنصفت الجامعات لمنعت استعمال الألقاب العلمية إلاَّ إذا كتب الأستاذ في تخصصه، وعليه: فاستعمال "دكتور أو "أستاذ" لا قيمة لها في مؤلفاتهم ومواقعهم على الشبكة العنكبوتية؛ فإنهم كتبوا في غير تخصصاتهم. فكيف يُقبَل قول قسيس في القرآن والسنة؟ وقول هندوسي أو يهودي في القرآن والسنة؟ وكيف يُقبَل كلام مهندس لا يحفظ القرآن الكريم؟ وكيف يُقبَل قوله في مسائل في غاية الدقة في الإسلام؟ وكيف يُقبل قول رجل منحرف في دينه وعقيدته وسلوكه وأمانته؛ من أمثال "أحمد صبحي منصور" في الحديث بأصول الدين والشريعة والسنة؟ والتطاول في انتقاد الصحابة الأخيار رضي الله عنهم، والأئمة الأبرار، وينتقد أحدهم أئمة الإسلام الأجلاء أمثال: الإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، ولست أدري كيف أصبح هؤلاء الأقزام مؤهَّلين لأن ينصِّبوا أنفسهم نُقادًا وحُكاماً على الأئمة الأخيار، فيعترضون على هذا، ويعيبون هذا؟ بل غالى أحدهم فعاب الأمة بأسرها، وانتقد أهل السنة والجماعة!! ألا ليت كل إنسان يعرف قدره، ويخاف سيئاته ووزره!!
وكيف يُقبَل كلام رجل أمضى عمره في خدمة القوانين، ولم يُعرف عنه في الإسلام علم ولا عمل، كيف يُقبل قوله حينما يعيب علماء الإسلام السابقين واللاحقين؟ إنَّ عمله بالقانون لا علاقة له بالدراسات الإسلامية، اللهم إلاَّ أنه زاده جرأة على الحق، وتعالياً على الخَلْق، مع ما فيه من قدرة على الهمز واللمز، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
إنَّ كتابة ألقابٍ كهذه نوع من التضليل، تنطق بكذبهم، وهي دليل كامل على افترائهم وتزويرهم، وليت أحدهم حينما كتب "دكتور" أو "أستاذ بجامعة كذا" كتب تخصصه ليعرف الناس تخصصه، وليعرف الناس أنه لا علاقة له بالتخصص في العلوم الإسلامية. إنَّ الألقاب لا تؤهل في حد ذاتها؛ فالأستاذ في الهندسة لا يستطيع أن يفتح عيادة لاستقبال المرضى، ولو فعلها ما ذهب إليه عاقل، ولو ذهب إليه جاهل فإنه يضره ولا ينفعه.
إنَّ أنظمة الدنيا لا تسمح بفتح عيادة لأستاذ في الهندسة، ولا دكتور في الاقتصاد، لكن لست أدري كيف يتكلم هؤلاء في دين الله؟! وإن رجل القانون حسبه القانون، أمَّا أن يذهب فيكتب في دين الله، ويعيب الأئمة الأعلام فهذا ضلال، وبُعد عن الفكر السليم والمنهج القويم.
السِّمة الثانية: في كتاباتهم تلبيس على غير المُتخصِّص في السُّنة:
يزعم القرآنيون أنهم يتَّبعون "الأسلوب العلمي" و"الفكر الحر" و"النظر الثاقب" و"تحرير المسائل" و"التدقيق في كل أمر" و"الحيدة" و"النزاهة" إلى غير ذلك من الكلمات البرَّاقة التي تُوهم القارئ أنهم سيحققون في المسائل تحقيقاً لم يسبقهم إليه أحد.
وإنك لتعجب حينما تسمع لحامل "دكتوراه" في "علوم التجارة" يتحدَّث أنه لا يستطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُفسِّر القرآن، ولا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولا عمر الفاروق رضي الله عنه، ولا الطبري رحمه الله، ولا ابن كثير رحمه الله، وإنما هذا "الدكتور" وحده هو الذي يستطيع أن يفسر القرآن الكريم!! بل كيف يُفسِّر القرآن العظيم مَنْ يجهل السُّنة النبوية؛ بل يُنكرها، ويجهل اللغة العربية، وفي أسلوبه ركاكة؛ بل حتى كتابة الإملاء على غير القواعد الصحيحة للإملاء؟! سبحان الله!! هل هذا فكر؟ هل هذا احترام التَّخصص؟ بل هل هذا عقل؟ أرَجُلُ التجارة يفسر القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُفسِّره؟
إنهم لا يملكون أدوات العلم، ولا يعرفون قواعده، فبضاعتهم في اللغة العربية مزجاة، وسلعتهم في قواعد وأصول علم الحديث والسُّنة كاسدة راكدة، والقرآن الكريم وعلومه وتفسيره يحتاج إلى تضافر علوم عدة؛ كي يتسنَّى للعالِم الجِهْبِذ أن يتكلَّم فيه، فكيف بمَنْ لا يعرف الفرق بين المكي والمدني، أو بين المحكم والمتشابه، أو بين المُجمل والمُفصَّل، ولا يعرف غريب القرآن وقواعد اللغة ومناسبات الآيات، ودلالات الألفاظ، والفرق بين معاني الحروف وغير ذلك من الأدوات اللازمة لتفسير القرآن والتكلُّم فيه؛ بل يحرم على مَنْ يجهل هذه العلوم وغيرها من علوم القرآن اللازمة والواجبة أن يتكلَّم في كتاب الله عز وجل.
وفي هذه الأيام ظهر نوع آخر من التلبيس؛ حيث يستعمل أصحابه النظريات التي درسوها في كتاباتهم لتكون فوق أسلوب القارئ فيظن أنهم من العلماء، وأن تفسيرهم للقرآن برأيهم له قيمته. إلاَّ أنَّ هذا التلبيس وهذا الخداع لا ينطلي على مَنْ دَرَسَ السنة النبوية، فإنه - بادئ ذي بدء - يتجلَّى له زيف كلامهم، وباطل مُدَّعاهم[2].
ولكي يحبكوا تلبيسهم على الناس تجدهم يستخدمون مصطلحات برَّاقة وكلمات رنانة من مثل: "التداولية - التأويلية - التاريخانية - التلقي - البشري والمقدس - الإنيطيقيا – الأنطولوجيا - السيميالوجيا – العرفانية..." إلى آخر هذه الكلمات وتلك المصطلحات التي تكثر في كتاباتهم وتشيع على ألسنتهم، فيشعرون بها السُّذَّج أنهم أهل علم وأصحاب خبرة، وهم في حقيقة الأمر أبالسة هذا الزمان ومنافقوه، بها يحاولون التلبيس على الناس دينهم.
السِّمة الثالثة: إحياؤهم لشبهات السابقين:
إن أعداء الإسلام قديماً قد افتروا وكذبوا على الإسلام فتتبَّعوا الشَّواذ، وأثاروا الشبهات، وتركوا المحكم، ولجؤوا إلى المتشابه، وفرَّقوا بين الوحيين؛ القرآن والسُّنة، وادَّعوا الخصومة والقطيعة بينهما، وغالوا في ذلك، فأنكروا السُّنة وطعنوا فيها؛ كي ينفردوا بالقرآن بتأويلاتهم الباطلة، وشبههم المُضلِّلة، ثم جاء القرآنيون منكرو السُّنة المعاصرون فأخذوا أقوال أعداء الإسلام السابقين، وراحوا يُردِّدونها على أنها طعنات للإسلام عامة، وللسُّنة خاصة، وينسبونها لأنفسهم زوراً، يُدرِك ذلك مَنْ قرأ كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي رحمه الله الذي أجاب فيه على فرية إنكار السنة، التي كانت قد ظهرت بمصر، وهي جزء من الحملة المعادية للإسلام.
إن الفرية هي هي يُردِّدها المعاصرون من منكري السنة، لم تتغير منذ زمن الإمام الشافعي الذي عاش في القرن الثاني الهجري وتوفي (سنة 204 هـ)، ومَنْ راجع هذا الكتاب عَرَفَ الجواب.
ومن مصادر افتراءاتهم أيضاً أن يقرؤوا كتب أئمة الإسلام، فإذا صوَّر الأئمة إشكالاً وأجابوا عليه أخذ هؤلاء الإشكال وردَّدوه في كتبهم، وقد أعرضوا عن الجواب.
ومن زورهم أنهم يكذبون في إيراد الحقائق: فهذا أحدهم يورد خبراً نقله من كتاب (الإحكام، لابن حزم)، مفاده: أنَّ عمر بن الخطاب حَبَسَ ابنَ مسعود وأبا موسى وأبا الدرداء في المدينة على الإكثار من الحديث! وهذا الخبر أورده "ابن حزم" في كتاب "الإحكام" وحَكَم عليه بالكذب[3]، فإذا بِعَدوِّ السُّنة يأخذه ليستدل به! وهذا يدل على أنهم يتعمَّدون الكذبَ في سبيل بلوغ غايتهم!!
وتجدهم يُفتِّشون في كتب السُّنة الصحاح وغير الصحاح، فيتتبَّعون من الأحاديث أضعفها، ومن الأخبار أكذبها، يروِّجونها بين الناس دونما إشارة إلى أقوال أهل السنة الثقات فيها؛ حيث بيَّنوا عوارها وأظهروا ضعفها أو وضعها.
وربما لجؤوا إلى الأحاديث المشكلة، فراحوا يُشنِّعون بها على الإسلام وأهله، وأيضاً دون أمانة في النقل، فما من حديثٍ مُشكل إلاَّ وَضَعَ له أهل السنة تفسيراً، بما يشفي العليل ويروي الغليل، فتراهم من قديمٍ يدورون حول أحاديث بعينها لا يتعدَّونها إلى غيرها؛ مثل حديث السحر، وحديث الذباب، وحديث موسى عليه السلام وملك الموت، وحديث إرضاع الكبير، وغير ذلك من أحاديث يوهم ظاهرها بالإشكال، وأمَّا حقيقتها وما استخلصه منها أهل العلم ففيه من الفقه والتيسير ما فيه، ناهيك عن أحاديث الفتن وأشراط الساعة التي تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي من أعلام نبوته ودلائل معجزته؛ فقد شنَّعوا بها تشنيعاً على السُّنة وأهلها، والغريب والعجيب أنك تشعر أن الزمان يستدير مع هؤلاء كهيئته، فهذه الأحاديث وغيرها هي نفسها التي احتجَّ بها السابقون، فتشابهت حُججهم كأنَّ الزمان قد توقَّف عندهم ولم يَتعدَّوها إلى غيرها، فما أشبه اليوم بالأمس، تشابهت قلوبهم، فهم لِغَيِّ مَنْ سبقهم مُتَّبعون، ولِضلالهم مُقلِّدون، وبهداهم مُقتدون، ولكن بقالب عصري ومظهر حداثي، به يُغَرِّرون، ومن خلاله يَدُسُّون السموم لِمَنْ يقرأ لهم أو يسمع لمعسول كلامهم، لكن هيهات هيهات، فلَحْن القول في كلامهم ظاهر، ولفظ الضلال في حديثهم واضح، لا ينطلي على أهل الدين والصلاح؛ لذا تجدهم في عداوة وبغضاء لعلماء الإسلام العاملين، يُحاولون تشويههم وكسر هيبتهم، ويأبى الله إلاَّ أن يفضحهم ويهتك سِترهم.
السِّمة الرابعة: افتراءاتهم لا تنطلي إلاَّ على السُّذج:
وافتراءات القرآنيين أعداء السنة هزيلة، تزول بقراءة موضوعها في كتب السنة، شأنها شأن الافتراءات على الإسلام عموماً؛ فإنها لا تُقبل إلاَّ عند من ليست عنده دراية، ولا فطانة.
أما الدارسون للإسلام، أو حتى من عندهم ذكاء ودربة علمية فإن افتراءات أعداء الإسلام لا تجد عندهم قبولاً؛ فمثلاً: يُكثرون الكلام عن كتابة السنة، ويقولون: إنها لم تدوَّن إلاَّ على رأس المائة الأُولى، وإنَّ علماً ظل مائة عام بدون كتابة لا بد أن يدخله الزيادة والنقص، وهذا كلام ينطلي على مَنْ ليس عنده دراية بتاريخ السنة، وليس عنده دربة علمية.
أمَّا مَنْ عنده مجرد دربة علمية فإنه لا يقبله؛ إذ يقول - بادئ ذي بدء: إنَّ السنة النبوية مصدر الإسلام مع القرآن الكريم فلا بد أنْ تُحافِظَ عليها الأمة، وأمة الإسلام بحمد الله كثيرة، والحفظ كان قوياً فلا بد أن السنة وَجَدَت مَنْ يحفظها ويصونها، ومُحالٌ أنْ تُفرِّط الأمة في مصدر دينها.
أما الدَّارس لتاريخ السنة فيقول: نعم إن السنة لم تُدوَّن إلاَّ على رأس المائة الأُولى الهجرية إلاَّ أن هذا لا يفيد أنها لم تكتب طيلة هذا القرن؛ فالتدوين شيء، والكتابة شيء آخر.
والفرق بين الكتابة والتدوين: أنَّ الكتابة: مُطلق خطِّ الشيء، دون مراعاةٍ لجَمْعِ الصُّحُف المكتوبة في إطارٍ يجمعها.
أمَّا التَّدوين: فمرحلةٌ تاليةٌ للكتابة، ويكون بجمع الصُّحف المكتوبة في ديوان يحفظها.
وعلى ذلك؛ فقول الأئمة: إنَّ السُّنة دُوِّنت في نهاية القرن الأوَّل، لا يُفيد أنها لم تُكتب طيلة هذا القرن، بل يُفيد أنها كانت مكتوبةً، لكنها لم تصل لدرجة التدوين - أي: جمع الصُّحف في دفتر - بل كان أكثر العلماء يكتب ما يسمع من غير ترتيب، وعندما جاءهم أمرُ الخليفةِ عمرَ بنِ عبد العزيز رحمه الله أخَذَ الصِّفة الرَّسمية، وأخذ التَّدوينُ أشكالاً مُتعدِّدة، وما فهمه المعاصرون ـ من أنَّ التدوين هو الكتابة ـ فهو خطأٌ، منشؤه عدم التمييز بين الكتابة والتدوين[4].
إذاً؛ مُطلق الكتابة - يعني دون ترتيب على الأبواب - فهذا موجود ومُتَوَفِّر للسنة في مجالس رسول الله؛ فلقد كَتَبَ صلى الله عليه وسلم كُتُباً وأرسلها إلى حُكام البلاد المجاورة، وكَتَبَ كُتُباً لِعُمَّاله بيَّن فيها الكثير من الأحكام، وكتب الصحابةُ رضي الله عنهم أمامه، وأقرَّهم صلى الله عليه وسلم، وأمَرَ بالكتابة لبعضهم. إنَّ افتراءهم هذا يزول سريعاً أمام التَّعقُّل أو العلم، كما أن النور يُزيل الظلام، والشمس تملأ الوجود ضياءًا.
ولقد ظَلَّ تدوين السنة النبوية والتشكيك فيها من قِبَلِ أعداء الدِّين باباً واسعاً يُحاولون الولوج منه لِكَسْر هيبتها وهدم بُنيانها، وقد تناسى هؤلاء أنَّ هذا الباب الواسع من ورائه حصن شامخ في وجه أعداء الدِّين يتمثَّل في هذا النتاج العلمي غير المسبوق في تاريخ الإنسانية بأسرها فيما اصْطُلِح عليه باسم علوم الحديث، وعلم الجرح والتعديل، والتي بها استطاع أهل السنة حفظ النص وتمييزه ومعرفة صحيحه من سقيمه، فحفظوا السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكتفوا بذلك فقط، وإنما بيَّنوا ما دخلها من فعل الوضَّاعين والكذابين والمغرضين، فظلَّت السُّنة ناصعةً ساطعة، حافظةً لدين الله تعالى، شارحةً لكتابه، مبيِّنةً لأحكامه.
ولعل علوم السُّنة هذه كانت هي العقبة الكؤود أمامهم، فلم يجدوا حيلةً للتشكيك في منهجها وانضباطها، فأرادوا أن يلتفُّوا عليها، فيهاجمون السُّنة في مرحلة ما قبل التدوين، ظانين أنهم بذلك سيحصلون على بغيتهم، ولكن أخزاهم الله، فما استطاعوا لهذا الغرض تحصيلاً، فلا يصمدون أمام نقاشٍ علمي جاد، ولا يستطيعون دفعاً ولا انتصاراً.
السِّمة الخامسة: منهجهم مُختل:
يلاحظ على كثير من القرآنيين أعداء السنة اختلال منهجهم، واعوجاج خطهم؛ فتجدهم يطلبون الشيء من غير بابه، ويدرسون الإسلام من كتب أعداء الإسلام!!
إن دراسة الشيء كلَّما اقتربت من مصدره عظمت ووثق بها، وكلَّما بعدت ضعفت وقلَّت الثقة بها، فمَنْ أراد دراسة الإسلام فعليه بالقرآن والسنة وعلومهما؛ فالقرآن في قراءته من أهل الدراية بقراءات القرآن، وفي فهمه من علماء التفسير الذين جمعوا علوماً مُتعدِّدة حتى استطاعوا أن يفسروا القرآن الكريم، والسنة تؤخذ من علمائها؛ إنْ درايةً فمن علماء الدراية الذين يعرفون كلمات كل حديث، بل حروف كل حديث، وإنْ روايةً فمن علماء الرواية الذين يعرفون روايات كل حديث، ومعنى كل حديث، وما يستفاد من الحديث.
هذا هو المنهج السليم، أمَّا القرآنيون أعداء السنة فهم عكس ذلك تماماً، لا يقرؤون كتب أئمة الإسلام، وإنما يقرؤون الإسلام من خلال كتب أعدائه!! وتجد أسلوب الواحد منهم في أول الكتاب يختلف عنه في آخر الكتاب، وأمَّا دراسة المسائل فحدِّث عن اعتلال منهجهم فيها ولا حرج.
فهم يخصصون آيةً بدون مخصص، فيزعم بعضهم أن هذا الأمر خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولا دليل لهم على الخصوصية، ويخطئون في فهم النصوص، وينكرون حجية الإجماع، ولا غرابة في ذلك فقد أنكروا السنة كلها. ويفترون العلل للآيات، لِتُفَسَّر في ضوء ما افتروه، ويُعلِّقون الحكم على شيء ثم يُلغون المُعَلَّق عليه؛ يتضح هذا كثيراً لمن قرأ كتبهم.
وجهلهم بأصول الكتابة والتأليف واضح؛ إذ يقتبسون من تعليق ويعزونه إلى الكتاب والأصل، ويسوقون الدعوى والدليل، إلاَّ أن الدليل لا يؤيد الدعوى!! ويسوقون الدعوى ولا دليل!! ويسوقون الدعوى والدليل ضدها!!
والخروج عن وقار العلم شائع فيهم، فما بين تجريحٍ ودسٍّ، وما بين وقيعة وخبث، فهم لا يعرفون أدب طالب العلم ولا أخلاق العلماء، بل إن بينهم وبين ذلك بوناً شاسعاً[5].
وتجدهم يجمعون من المتناقضات في بابٍ واحد؛ فمثلاً إذا قلنا: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلاَّ ما قام عليه دليل، وجدناهم يأخذون بها فيما يريدون إثباته، ويرفضونها فيما لا يوافق هواهم، كما مر بنا في آية الحجاب، وأنها خاصة بنساء النبي، وكذا آيات تطبيق الشريعة وغيرها.
وهذا التناقض الواضح والانتقائية الظاهرة تُوقِع بهم عندما يعرضون بضاعتهم في حضور علماء الدين؛ لذا نجدهم يبتعدون عن مواجهتهم، ويُوَجِّهون حديثَهم إلى عامة الناس، فيتأثر بهم مَنْ لا يملك الحجج والبراهين.
السِّمة السادسة: ليسوا طلاب حق:
أعداء السنة القرآنيون ليسوا طلاب حق، وإنما هم مقيمون على عداء السنة والكيد لأهلها، يُردِّدون فكرهم كأنهم ببغاوات، مهما أقمت لهم من حجج وبراهين لا يقبلون، جُنِّدوا لذلك وعليه حريصون، ولو اتضح لهم الحق أعرضوا عنه ونأوا بجنوبهم؛ لأنهم جعلوا فكرهم هو الأساس وله تُطوى كل الحقائق، وتُقصف أعناق النصوص.
فإذا كان المجال مجال اللغة فلا يعنيهم ماذا تقول كتب اللغة، وإنما المهم أن يفسروا الشيء حسبما تقتضيه زبالات أفكارهم، وإذا كان المجال مجال حُكمٍ شرعي فليس يعنيهم أن يرجعوا إلى كتب الفقه، وإنما يعنيهم أن يفرضوا باطلهم، وإن خالف الكثير من النصوص.
فهذا أحدهم يؤول قوله تعالى: ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]. حسب هواه وما يعتقده من باطل؛ فيدَّعي: أن الذكر يرث 66. 6 بحد أقصى، والأنثى ترث 33. 6 بحد أدنى، فمن أين جاء بذلك، وما دليله، ومن قال به من أهل العلم؟! ثم راح يقول: ويجوز لنا أن نقربهما من بعضهما فلو أعطينا الذكر 60% والبنت 40% فهذا جائز.
إن منهج القرآنيين يقوم على مخالفة الآية والأحاديث التي في الموضوع، ولو كانوا طلاب حقٍّ لقالوا بما قرَّره الله تعالى، ثم بما قال به علماء الإسلام على مر التاريخ: للذَّكر ضعف ما للأنثى.
وبعضهم يزعم فيقول: نترك هذه الآية: ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]. ونأخذ بالآية الأخرى: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ [النساء: 7]. يقول: فنسوِّي بين الذكر والأنثى في الميراث، وهو من أعجب العجب! أتترك الآيات التي حدَّدت الأنصبة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 11، 12].
فنلاحظ أن الآيات حدَّدت الأنصبة بدقة وبشروط، فكيف نُعرِض عنها إلى الآية التي أثبتت أصلَ الميراث؟ أيُّ فهم هذا؟! فلو اعتمدنا فهم أعداء السنة؛ يُكون كلُّ الرجال وكلُّ النساء سواسية في الميراث من الأبوين والأقربين!! وهذا فيه مخالفة صريحة لنص القرآن العظيم، وفيه خروج للأمة من دينها!! وهؤلاء القرآنيون أعداء السنة يفترون على الله الكذب؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 7 - 9]. وهذه الانتقائية، والانتقال من المحكم إلى المتشابه يدل على هواهم واتباعهم له دون الحق الظاهر بالدليل والبيِّنة.
السِّمة السابعة: اعتمادهم على مصادر غير موضوعية:
ومنكرو السنة يكتبون ويضعون لكتاباتهم مصادر، إلاَّ أنه يُلاحظ أن مصادرهم لا تُوثِّق بحوثهم؛ بل تشهد بخطئها، فما قيمة كتاب يأخذون منه ويعتبرونه مصدراً لدراساتهم الإسلامية بينما مؤلف هذا الكتاب غير مسلم؟!
وما قيمة كتاب كتبه عدو للإسلام؟ وما قيمة كتاب كتبه إنسان لا يعرف الإنصاف؟ وهم أنفسهم، أعني: منكري السنة – لا يعرفون الإنصاف، وهم معروفون بالضلال والكذب فيما يؤلفون ويكتبون وينشرون.
وإن الكثير من مصادرهم لِمُستشرقين، من النصارى، واليهود، وكثير منها لِفِرَق تُحسب على الإسلام ظلماً، وكثير منها لمؤلفين معروفين بالضلال والزيغ، وبعضهم يعتمد على مصادر قد حُكِم على مؤلفيها بالردة، وكثير من مصادرهم حَكَمَ علماءُ الإسلام بضلال مؤلفيها، وهم - منكري السنة - يُقبِلون على هذه المصادر بكل حرص، مما أفقد مؤلفاتهم وزنها، وأبان عوار كتبهم وزيفها، وأظهر بطلان أفكارهم وضلالها.
ومنكرو السنة - في هذه الآونة - جعلوا من أنفسهم مصادر لهم؛ فهذا يأخذ عن هذا وهذا وهذا، وذاك يأخذ عن هذا وهذا وهذا، وهكذا يؤيد كل منهم كلامه بكلام أمثاله، وهم جميعاً لا قيمة لكلامهم من المنظور الشرعي؛ فليس كلُّ مَنْ تكلَّم يُقبل كلامه، ولا كلُّ مَنْ كَتَبَ تُقبل كتابته، وإنما يُقبل علم التَّقي الورع الملتزم بالقرآن والسنة، الذي يشهد له علماء الأمة بالاستقامة والفضل.
إنهم يدورون في ثلاث دوائر فكرية، عنها يأخذون أفكارهم وبها يستدلون على آرائهم، وهي:
1- اعتمادهم على كتابات المستشرقين والمُنصِّرين، والاستناد إلى آرائهم واتِّخاذها أدلةً على كلامهم، وهذه الكتابات تُمثِّل الدائرة الأُولى من دوائر نقلهم.
2- أمَّا الدائرة الثانية، وهي تتبُّع الشُّبهات التي رَوَّج لها أصحاب الفِرق والمذاهب المُعادية للسُّنة على مدار التاريخ، وإحياؤهم لمقولاتهم ونشرها والارتكاز عليها، دونما إشارة إلى ردود علماء الإسلام عليها وتفنيدهم لها.
3- وأما الدائرة الثالثة، فهي نَقْلُ بعضِهم عن بعض، واعتبار ما قاله أحدُهم حُجَّةً قائمة بذاتها، ومُسلَّمَة يجب الإذعان لها مُستغلِّين الألقاب العلمية التي يُلبِّسون بها على كثير من القُرَّاء المُتَلَقِّين عنهم.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|