في غار حراء
في شهر شوّال من عام 1388هـ رغبت في أن أزور غار حراء قبل أداء مناسك الحج.. وكان ذلك.. وكتبت يومها هذه الكلمة، وبقيت في أوراقي، وأنشرها اليوم:
ساعة من أحلى ساعات العمر.. ساعة قلّما يحظى بمثلها الإنسان في هذه الحياة.. هذه الساعة لم تكن مُتْرَعَةً بالراحة، ولا مقضية بجلسة هادئة أتناول فيها الطعام الفاخر الطيب وأحتسي فيها الشراب اللذيذ السائغ.. نعم، لم تكن ساعة لذةٍ من لذائذ الحياة الدنيا.. ومع ذلك فقد كانت ساعة من أحلى ساعات العمر.. إي والله.
كانت هذه الساعة في حراء.. وفي الطريق إلى حراء.
و(حراء) كلمة خالدة، تثير في نفس المرء المسلم أحاسيس ومشاعر لا حدّ لها.. ويصعب وصفها.
خرجنا في الصباح وامتطينا السيارة المريحة ذات المقاعد الوثيرة.. وانطلقت بنا السيارة تطوي الكيلومترات طيًّا حتى وصلنا إلى سفح الجبل؛ جبل النور، وشرعنا نرقى هذا الجبل الذي كان يرقاه خير خلق الله صلوات الله وسلامه عليه..
ولقد كان الطريق صعب المرتقى، شديد الوعورة، عديد المزالق، وكأني بهذا الطريق يذكّر المسلمين بحقيقة مهمة قد تغيب عن بال بعض الشباب.. هذه الحقيقة هي أن طريق الدعوة إلى الله لم يكن في الأمم التي خلت ولن يكون في المستقبل طريقًا معبَّدًا مفروشًا بالسجاد، ومزينًا بالورود والرياحين، وعذب المنى.. ولكنه كان أبدًا طريقًا مفعمًا بالمصاعب والمتاعب والمكاره والآلام، وهو ارتقاء ولكنه صعب، وهو صعود ولكنه عسير، وهو طريق وعر إلَّا على المؤمنين.
وأودّ أن أقرّر - وأنا في نشوة المتعة بهذا الجوّ الروحي السامي، وأنا في هذه الساعة الحلوة من ساعات العمر - أنّ زيارة هذا الغار ليست منسكًا من مناسك الحج والعمرة، ولا أمرًا مندوبًا إليه من العبادات..
كنت أودّ أن أكحل عيني برؤية الأرض التي شهدت أول اتصال للسماء بمحمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
كنت أريد أن أمشي على الأرض التي كان يمشي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحرج ساعات الدعوة.
كنت أود أن أشاهد الغار الذي كان فيه بدء نزول القرآن الكريم، وكان فيه بدء تلقي رسالة الإسلام، يحملها جبريل عليه السلام، يخاطب فيها رسول الله: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1-5].
رسالة الإسلام القول الثقيل ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 5]، النور الذي بدَّدَ ظلمات الجهالة، وقضى على المظالم الاجتماعية التي كان العالم يومذاك يئنُّ من وقع آلامها.. هذه المظالم التي تكون في كل مكان يُتجاهل فيه شرع الله.
لقد كانت ساعة مباركة شهدها هذا الغار الكريم المبارك الذي بدأ نزول الوحي فيه، يقرر التوحيد والإيمان باليوم الآخر، وينظم حياة الإنسان تنظيمًا يحقق له سعادة الدنيا والنجاة والفوز في الآخرة.. لقد هزَّت كلمة التوحيد الدنيا كلها، وغيرت مجرى التاريخ.. ودفعت الإنسان إلى الأمام، وحرَّرته من المظالم والأوهام، وجعلته يُحِسُّ بإنسانيته.
حقًّا لقد كانت الليلة التي كان فيها هذا الحديث العظيم خيرًا من آلاف الليالي العادية، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 1 - 5]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 3، 4].
إنَّ هذا الغار بقعة صغيرة كانت أوسع بركة على الدنيا من عدد من بقاع الأرض.. لقد اتسع لجلال الوحي وسموّ الرسالة.. نعم، عشتُ في الغار وعند الغار لحظات، بَدَتْ لي فيها الدنيا على حقيقتها، وتجلَّت لي عظمة هذه الرسالة الخالدة، وحمدت الله أن هداني إليها فكنت من المسلمين.. لقد تصورت وأنا بين جوانح هذا الغار رسولَ الله العظيم صلوات الله وسلامه عليه، الذي كان ينأى عن الانحراف والضلال والشرك والزيغ والفساد الذي كان يسود في مكة، وينأى عن دويِّ الحياة الصاخب واضطرابها ومشاكلها.. ينأى عن ذلك كله بجسده بعد أن نأى عنه بقلبه ووجدانه.. ويقضي في هذا الغار ساعات من التأمل يستشعر فيها عظمة الله، وضآلة الكون بالنسبة إلى الله - تبارك وتعالى - العلي القدير.. ويخلو بنفسه فيحيا معها في إحساس مرهف، حتى صَفَتْ وارتقت وأصبحت مكانًا صالحًا لتلقي الرسالة الخالدة السامية.
أخرج البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنَّثُ فيه - أي: يتعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قال: ((ما أنا بقارئ))، قال صلى الله عليه وسلم: ((فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني وغطني الثالثة، ثم قال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5]...)) الحديث[1].
بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، مِن متمرِّد على الضلال والجهل والباطل.. كان يرتضي المقام في هذا الغار، ويُؤْثِرُ الإقامة فيه على الإقامة في أهله وبين زوجته وأولاده وعشيرته، ويبقى في هذا الغار الليالي ذوات العدد.
غار بين صخور متراكبة بعضها فوق بعض.. صخور طولانية ترى فتحة فيها من جهة القبلة.. ولا يتسع هذا الغار لأكثر من أربعة أشخاص، وفي أعلاه فتحات يسيرة.. وأرضه غير مستوية.. ساعة لا أنساها.. كأني بها من ساعات الآخرة.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|