فوائد من حديث: سعة مغفرة الله عز وجل
عن أنسٍ رضي الله عنه[1] قال: سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تبارك وتعالى: يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفَرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة"؛ رواه الترمذي[2]، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
درجة الحديث: صححه الألباني.
منزلة الحديث: الحديث عظيم الشأن؛ لأنه دلَّ على عظم شأن التوحيد، وعظم الأجر الذي أعدَّه الله للموحدين، كما دلَّ على سعة مغفرة الله لعباده، كما فيه ترغيب عظيم بالاستغفار والتوبة والإنابة إليه سبحانه وتعالى.
مفردات الحديث:
ما دعوتني: ما دمت تسألني مغفرة ذنوبك وغيرها (ما ): زمانية ظرفية، مصدرية، شرطية، أي مدة دوام دعائك.
رجوتني: خفت من عقوبتي ورجوت مغفرتي، وطمعت في رحمتي، وخشيت من عظمتي. على ما كان فيك: مع ما وقع منك من الذنوب الكثيرة، الصغيرة والكبيرة. ولا أبالي: أي لا تعظم كثرتها عَلَيَّ، [ولا أهتم].بلغت: وصلت من كثرة كميتها، أو من عظمة كيفيتها. عنان: هو السحاب، وقيل ما انتهى إليه البصر منها. استغفرتني: طلبت مني المغفرة. قراب الأرض: ملؤها، أو ما يقارب ملأها. لقيتني: أي مت ولقيتني يوم القيامة. لا تشرك بي شيئًا: اعتقادًا ولا عملًا، أي تعتقد أنه لا شريك لي في ملكي ولا ولد لي ولا والد، ولا تعمل عملًا تبتغي به غيري. مغفرة: هي إزالة العقاب وإيصال الثواب.
فوائد الحديث:
1- في هذا الحديث الأسباب التي تحصل بها المغفرة، وهي ثلاثة:
السبب الأول: الدعـاء مـع الرجـاء، فإن الدعاء مأمور به، وموعود عليه بالإجابة؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60].
والدعاء عبادة؛ قال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)؛ رواه أبو داود.
والله يغضب إن لم يسأل؛ قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه)؛ رواه ابن ماجه.
وينبغي حضور القلب ورجاء الإجابة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه ).
ولا يستعجل الإجابة. قال صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي) متفق عليه.
وأن يعزم المسألة. قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا يتعاظمه شيءٌ)؛ متفق عليه.
وللداعي إحدى ثلاث:
قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس له فيها إثم أو قطيعــة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوتــه، وإما أن يدَّخرهــا له في الآخرة، وإما أن يكشف عنه من السوء مثلها)؛ رواه أحمد.
السبب الثاني: وهـــو الاسـتغفــار:
وهو طلب المغفرة، والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها، وقد أمر الله به؛ قال تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 106]، وقال تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [غافر: 55].
ومن أسماء الله: الغفور والغفار؛ قال تعالى: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الحجر: 49]، وقال تعالى: ﴿ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾ [الزمر: 5].
مهما عظُمت ذنوب الإنسان، فإن الله يغفرها لمن تاب؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [النجم: 32].
والأنبياء وأهل الفضل يطلبون المغفرة من الله؛ قال تعالى عن نوح: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [نوح: 28]، وقال الخليل: ﴿ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الشعراء: 82]، وقال موسى: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ﴾ [القصص: 16]، ومدح المستغفرين، فقال تعالى: ﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17].
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الاستغفار؛ قال صلى الله عليه وسلم: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)؛ رواه البخاري.
وللاستغفار فوائد:
أولًا: تكفير السيئات ورفع الدرجات؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110]، وفي الحديث القدسي: (قال الله: من يستغفرني فأغفر له..)؛ متفق عليه، وتقدم قوله تعالى في الحديث القدسي: (فاستغفروني أغفر لكم)؛ رواه مسلم.
ثانيًا: سبب لسَعة الرزق والإمداد بالمال والبنين؛ قال تعالى عن نوح أنه قال لقومه: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10، 12].
ثالثًا: سبب لحصول القوة في البدن؛ قال هود لقومه: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 52].
رابعًا: سبب لدفع المصائب ورفع البلايا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33].
خامسًا: سبب لبياض القلب؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتــة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبــه)؛ رواه أحمد.
من أقوال السلف:
قال بعض العلماء: طوبى لمن وجَد في صحيفتــه استغفارًا كثيرًا.
وكان ابن عمر: يطلب من الصبيان الاستغفار، ويقول: إنكم لم تذنبوا.
وقال قتادة: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار.
وللاستغفار صيغ منها:
♦ (سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)؛ رواه البخاري.
♦ (رب اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطاياي وعمدي وجهلي وجدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخَّرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير)؛ متفق عليه.
♦ (رب اغفر لي وتُب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيــم).
السبب الثالث: التوحيد، وهو السبب الأعظم:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الإنسان إذا أذنب ذنوبًا عظيمــة، ثم لقي الله لا يشرك به شيئًا، غفر الله له، ولكن هذا ليس على عمومه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، فقوله هنا في الحديث: (لأتيتك بقرابها مغفرة) هذا إذا شاء، وأما إذا لم يشأ فإنه يعاقب بذنبه.
فضائل التوحيد:
أولًا: سبب لمغفرة الذنوب؛ كما في حديث الباب.
ثانيًا: سبب للنجاة من الشدائد؛ قال تعالى: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [العنكبوت: 65].
ثالثًا: سبب لدخول الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: (من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة)؛ رواه مسلم.
رابعًا: لأهل التوحيد الأمن والاهتداء؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، لم يلبسوا: لم يخلطوا؛ إيمانهم: توحيدهم؛ بظلم: المراد به الشرك؛ كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
2) أن الإنسان مهما دعا الله بأي شيء ورجا الله في أي شيء إلا غفر له، واستجاب له.
3) بيان سعة فضل الله عز وجل وكرمه وجوده.
4) بيان معنى لا إله إلا الله: أنه هو إفراد الله بالعبادة، وترك الشرك قليله وكثيره.
5) أن الاستغفار يمحو الذنوب ولو عَظُمَتْ.
6) فضيلة الإخلاص وأنه سبب لمغفرة الذنوب.
7) وجوب الإيمان بلقاء الله، لقوله: (لقيتني)، وقد قال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6].
فملاقيه: أي ملاقي ربك، وقيل: ملاقي عملك.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|