عاشوراء والهجرة النبوية
ملخَّص الخطبة:
1- الأشهر الحرم.
2- التأريخ الهجري.
3- يوم عاشوراء واستحباب صيامه.
4- قصة موسى عليه السَّلام.
5- الهجرة النبويَّة.
الخطبة الأولى أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله:
صحَّ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنّه قال: ((أفضل الصِّيام بعد رمضان شهرُ الله المحرَّم، وأفضل الصَّلاة بعد الفريضة قيامُ الليل))[1].
أيُّها المسلمون:
شهر الله المحرَّم أحدُ الأشهر التي قال الله فيها: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماوات وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36].
والأشهر الحُرُم: ذو القعدة، وذو الحجَّة، ومحرَّم، ورجب - كانت أشهرًا يَحْرُم فيها القتال لتعظيمها ولعظيم أمرها، وكانوا في الجاهلية يحتالون على استباحتها، فإذا بدا لهم أمرٌ وأرادوا فعله في الشَّهر الحرام؛ استباحوا الحرام، ونقلوه إلى شهر آخَر، ولذا قال الله عنهم: ﴿ إِنَّمَا النَّسِيء زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا ليُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [التوبة: 37].
واليوم العاشر من محرَّم له شأنُه العظيم، ولكن قبل ذلك شهر الله المحرَّم هو مبدأ التَّاريخ الهجريِّ لأمَّة الإسلام، فإنَّ المسلمين في عهد عمر رضيَ الله عنه فكَّروا بأيِّ شيءٍ يؤرِّخون كتبهم ويعرفون الأحوال، فاستشار عمر المسلمين في ذلك، فاتَّفق رأيهم على أن الشَّهر المحرَّم هو مبدأ العام الهجري[2]، هجرةِ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم لأنَّهم رأوا أنه آخَّر أشهر الحُرُم، فابتدؤوا به العام لينتهي العام بشهرٍ حرامٍ أيضًا وهو ذو الحجَّة.
يوم عاشوراء، اليوم العاشر من هذا الشَّهر له شأنه، فهو يومٌ عظيمٌ من أيَّام الله، إنَّ الأنبياء كانت تصومه، ولكن صحَّ عندنا صيام نبيَّيْن من أنبياء الله لهذا اليوم، فأولُّهما: صيام موسى بن عمران كليم الرَّحمن بهذا اليوم، وثانيهما: صيام سيد الأوَّلين والآخِرين؛ محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه.
موسى بن عمران كليم الرَّحمن أحد أُولي العَزْم من الرُّسل، هذا النبيّ الكريم، عظَّم الله ذِكْرَه في كتابه، فجاءت قصَّته في القرآن ما بين مبسوطةٍ وما بين موجَزَة، وفي قصص الأنبياء عبرةٌ للمعتبِرين: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِي الأْلبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء ﴾ [يوسف: 111]، ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3]، ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 49].
نبيُّ الله موسى بن عمران قصَّته في القرآن عجيبةٌ، ذلك النبيُّ الكريم الذي اختاره الله لأن يبلِّغ ذلك الطَّاغية الذي ادَّعى أنَّه الربُّ الأعلى ليبلِّغه رسالة الله إليه، ذكر الله قصَّته منذ وُلِدَ إلى آخِر قصَّته.
وُلد هذا النبيُّ الكريم في زمنٍ كان فرعون يقتل فيه الذُّكور من بني إسرائيل ويستبقي النِّساء، وُلِدَ هذا النبيُّ في ذلك العام، فألهم الله أمَّه أن تُرضعه وتلقيه في البحر، إلى أن يصبح فوق النَّهر: ﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَّهُ ﴾ [طه: 38 - 39].
كانت ترضعه وتضعه في صندوق وتلقيه في اليَمِّ! تلقيه في البحر! ثمَّ إذا احتاجت إليه جذبته إليها، لتتَّقي شرَّ مَنْ يريد قتله، فشاءت إرادة الله أن يصل ذلك الصندوق الذي فيه هذا الرَّضيع إلى بيت آل فرعون، فجاء مَنْ يوُكَّلون بقتل الذُّكور ليقتلوه، ولكن أمر الله فوق كلِّ شيءٍ: ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21].
لقد أوحى الله في قلب امرأة فرعون حبَّ ذلك الطفل، والشَّفقة والحنان عليه، وقالت مخاطبةً لفرعون: ﴿ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 9].
جاء هذا الطِّفل الصَّغير الرَّضيع، يريدون مَنْ يرضعه، فجاؤوا له بجميع المرضعات؛ فلم يقبل ثدي أيِّ امرأةٍ منها، ولما أوقع الله حبَّه في قلب امرأة فرعون، ضاقت ذَرْعًا بذلك الأمر، وأهمَّها الأمر، طفلٌ في بيتها لم يقبل ثديَ أيِّ امرأةٍ كائنًا مَنْ كان! ولكن لما لله من حكمة، ولوعده الصَّادق الذي وعده أمَّه أن يرجعه إليها في أمنٍ وأمان - بعثَتْ أخته لتنظر ماذا حاله، وماذا انتهى إليه أمر هذا الطفل، قال الله عنها: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [القصص: 10]. تلك محبة الأم لطفلها: ﴿ فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ﴾ [القصص: 10]، من كِبَر المصاب الذي حلَّ بها، قالت لأخته: ﴿ قُصِّيهِ ﴾ [القصص: 11]، وتتبَّعي أثره، واستمعي حاله، فعسى أن تهتدي إليه: ﴿ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 11]، يبحثون له عن مرضعة في المدينة كلِّها؛ فقالت لهم: ﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ [القصص: 12]؟ نعم إنهم ناصحونَ له، وإنَّها أمُّه الشَّفيقة عليه؛ قال الله: ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 13]. ترضعه على أنها مرضعةٌ أجيرةٌ، وهي أمُّه الشَّفيقة عليه، ومنذ أن التَقَمَ ثديها ارتَضَعَ رضاعًا جيِّدًا؛ فأعطوا أمَّه أجرته، وأكرموها وهم لا يعلمون أنَّها أمَّه، ولله الحكمة فيها يقضي ويقدِّر.
شاءت إرادة الله، ترعرع هذا الصبيُّ في بيت آل فرعون، ولما لله من حكمة بالغة.
وجرت أمورٌ وأحوالٌ، حتى أرادوا قتل موسى؛ فخرج فارًّا منهم، وهداه الله إلى أهل مَدْيَنَ، وشاءت إرادة الله إلى أن كان ما كان، حتى أوحى الله إليه، ليبلِّغ رسالته لذلك الطَّاغية الذي يقول: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24].
وأيَّده الله بأخيه هارون؛ استجابةً لدعاء موسى عليه السَّلام فجاءا آل فرعون قائليْن: ﴿ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مّن رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ [طه: 47]، والله أمرهما أن يقولا له قولاً ليِّنًا؛ لعلَّه يتذكَّر أو يخشى، فلمَّا أبلغاه رسالات ربِّه استهزأ بهما وقال: ﴿ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء:23]، مَنْ ربُّ العالمين؟! من باب الاستنكار والجحود، وإلا فهو يعلم في باطن أمره أنَّ ربَّ العالمين حقٌّ على الله، ﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل: 14].
دعاه إلى الله، وقال: ﴿ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ ﴾ [الشعراء: 23-25]، من باب السُّخرية والاستهزاء، ﴿ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الشعراء: 28]. فعند ذلك لجأ إلى القوة قال: ﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [الشعراء: 29]، وقال: ﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الشعراء:27]، عند ذلك زاده موسى: ﴿ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ ﴾ [الشعراء:30]، يدلُّ على صدق ما جئتَ به، وأنِّي رسول الله إليك حقًّا، قال من باب الاستنكار: ﴿ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الشعراء: 31]، وقد أعطى الله موسى آيتين دالَّتَيْن على صدق رسالته كما قال: ((ما بعث الله من نبيٍّ إلا آتاه من المعجزات ما على مِثْلِه آمن البشر، وإن الذي أوتيته وحيٌ أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثر تابعًا))[3].
بِيَد موسى عصا ألقاها على فرعون، فإذا هي بقدرة ربِّ العالمين ثعبانٌ مبينٌ، كادت أن تلتهم فرعون وملأه، ﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ ﴾ [الشعراء: 33]، دالة على صدق رسالته، وعند ذلك مضى موسى بدعوته إلى الله، وقوَّته في الحقِّ، لِمَا ظهر من صدقه وذلِّ فرعون ومَنْ معه، ولكن فرعون تمادى في طغيانه، واستعان بالسَّحَرة، وأغراهم وأعطاهم ومنَّاهم إن هم هزموا موسى، وإن هم تغلَّبوا على موسى؛ لأنه يرى أنَّ تلك العصا واليد سحرٌ، وأنَّ فرعون عنده من السِّحر ما يتغلَّب به على سحر موسى في ذلك، والتقوا واجتمعوا، وتواعدوا موعدًا كما قال الله عنهم: ﴿ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾ [طه: 59]. فلما اجتمعوا، ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى ﴾ [طه: 67]، وجاء السَّحرة بقضِّهم وقضيضهم، وملؤوا الوادي عصيًّا وحِبالاً، يظنُّه من يراها حيَّات وأشياء كثيرة، وموسى وحده إنما يحمل عصاه التي بيده، والله يقول له: ﴿ لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعْلَى ﴾ [طه: 68].
ألقى العصا التي معه؛ فالتَقَمَتْ كلَّ ما في الوادي، وظهر من عجائب قدرة الله العظيمة التي لا تقاوَم ما أبهر السَّحرة وأيقنهم أنَّهم على باطل، وأنَّ تلك معجزةٌ ربانيَّةٌ، لا قدرة لهم بمقاومتها، فعند ذلك خرَّوا لله سجَّدًا وقالوا: ﴿ آمَنَّا بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴾ [طه: 70].
توعَّدهم فرعون: ﴿ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الْحياةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 71 - 73]. أصبحوا سحرة، وأمسوا كرامًا بررة، ولأنَّ الحقَّ يعلو ولا يُعلَى عليه، والسِّحر والشَّعوذة والباطل إذا قابلهم الحقُّ فلن يستطيعوا لذلك سبيلاً.
وما زال موسى في دعوته، ماضٍ في سبيله، فلما أَيِسَ فرعون من أمره، ورأى أنَّه لا سبيل له بمقاومة موسى ومجادلته، أراد أن يقهرهم بجنده، فخرج بمئات الآلاف تابعًا موسى وبني إسرائيل، فلما اقتربوا من البحر قالوا: يا موسى، البحر أمامنا وفرعون خلفنا، وأوحى الله إليه: ﴿ أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء: 63]، فسلك موسى ومَنْ معه البحر في أمن واطمئنان، واتَّبعهم فرعون سالكًا مسلكهم، فأغرق الله فرعونَ ومَنْ معه، وأنجى موسى ومَنْ معه، فعند ذلك صام نبيُّ الله موسى يوم العاشر من محرَّم شكرًا لله على نعمته وفضله بإنجائه وإغراق عدوه.
ومحمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم أمره الله أن يقتدي بمَنْ مضى من قبله: ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]، وكان هذا اليوم يصومه أهل الجاهلية في جاهليَّتهم، فكان محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم قبل البعثة يصومه مع قريش، وصامه في المدينة، فلما افتُرِضَ عليه رمضان؛ لم يلزِم النَّاس بصومه، وخيَّرهم بين صومه وفِطْرِه[4]، لكنه صامه إلى أن لقيَ ربَّه.
وكذا اليهود يصومون هذا اليوم، فسألهم عليه الصَّلاة والسَّلام في ذلك فقالوا: "يوم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى؛ فنحن نصومه"؛ فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((نحن أحقُّ وأَوْلَى بموسى منكم))[5].
نعم، محمَّد وأمَّته أَوْلَى النَّاس بموسى، فهم آمنوا بجميع أنبياء الله: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68].
فصامه وأمر النَّاس بصيامه، من باب التطوع لا من باب الفرض، كان قبل أن يُفرَض رمضان أمر الناس بصيامه، فلما فرُِضَ رمضان صار مَنْ صامه فَحَسَنٌ، ومَنْ لم يصمْهُ فلا شيءَ عليه، لكنَّه رغَّب في صيامه؛ فيروى عن عبدالله بن عباس رضيَ الله عنهما أنه كان يقول: "ما رأيتُ النبيَّ صام يومًا يتحرَّى فضله على الأيام إلاَّ هذا اليوم؛ يوم عاشوراء"[6]، وقال أبو قَتادَة: سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((صيام يوم عاشوراء أحتسبُ على الله أن يكفِّر سنةً ماضية))[7].
ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في آخِر حياته لمَّا أُخبِرَ أنَّ اليهود والنَّصارى يصومونه قال: ((لئن عشتُ إلى قابلٍ - إن شاء الله - لأصومنَّ التَّاسع))[8]، ولكنه توفِّيَ قبل أن يصومه، وقال للمسلمين: ((صوموا يومًا قبله، أو يومًا بعده؛ خالِفوا اليهود))[9].
إذًا فالمسلم يصوم يوم العاشر، ويصوم يومًا قبل العاشر، أو يصوم يومًا بعد العاشر، وإن جمع الأيام الثلاثة كلها فحَسَنٌ.
فصيامنا لعاشوراء يكون يوم الثلاثاء التَّاسع من محرَّم، ويوم الأربعاء هو العاشر من محرَّم؛ لأنَّ ذي الحجة استُكمِلَ بيوم الأحد؛ فهو ثلاثون يومًا، وابتدأ شهر الله المحرَّم من يوم الإثنين، فيوم الثلاثاء هو اليوم التاسع ويوم الأربعاء يوم العاشر، فالمسلم يصوم يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، أو يصوم يوم الأربعاء ويوم الخميس، وإن جمع الأيام كلها فحَسَنٌ.
فصيامه سُنَّة، وكان المسلمون يصومُونه، ويُصوِّمونه صبيانهم، ويعطونهم اللّعب من العِهْن، تسليةً لهم عن الفِطْر في ذلك اليوم[10].
فصيامه سنَّة نبيِّكم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم فصُمْهُ أخي المسلم، فهو قربةٌ تتقرَّب بها إلى ربِّكَ.
أسأل الله لنا ولكم التَّوفيق والسَّداد، والعَوْن على كلِّ خير؛ إنه على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثَّانية الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله صحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد:
فيا أيُّها النَّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التَّقوى.
عباد الله:
كلما أرَّخ المسلم تاريخ يوم أو شهر، يقول: هذا اليوم العاشر من محرَّم من هجرة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأشْهُرُنا الهجريَّة تُنسَب إلى هجرة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم تلك الهجرة العظيمة التي انتقل الإسلام فيها من حالٍ إلى حال، ذلكم أنَّ نبيَّكم عليه الصَّلاة والسَّلام بُعِثَ على رأس أربعين من عمره، فمكث بمكَّة قرابة ثلاث عشرة سنة، يدعو إلى الله وإلى دِينه، صابرًا محتسبًا، واشتد عليه البلاء من قومه، وهمُّوا وفكَّروا في القضاء عليه لمَّا رأوا أنَّ دعوته قبلتها النفوس، وأنَّ مَنْ سمع قوله تأثَّر به، ولما رأوا أنَّ الأوس والخزرج قد بايعوه وسينتقل إليهم؛ خافوا من ذلك، وفكَّروا إما أن يقتلوه أو يخرجوه أو يقيِّدوه وكلُّ مكرٍ باء بالفشل - واتَّفقوا على قتله وتآمروا، ولكنَّ الله حال بينهم وبين ذلك، جاؤوا لبيته محيطين به، اتَّفقوا على أن يخرج إليه شبابٌ مجموعة من قريش ومفرَّقة من بيوتهم، ليُجهِزوا عليه فيقتلوه، فبنو هاشم يقبلون بالدِّيَة؛ فاتَّفقوا ليلةً على أن يقتلوه، فخرج عليهم، وحثا التُّراب على رؤوسهم وهو يقول: ﴿ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ [يس: 9]. وتلك قدرة الله.
أمره الله أن يهاجر إلى المدينة بعدما انتشر الإسلام في أهلها، فهاجر وأصحابه إلى المدينة، تلك الهجرة التي انتقل الإسلام بها من حالٍ إلى حال، كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بمكَّة مستضعفًا خائفًا، وفي المدينة عزيزًا كريمًا معظَّمًا، انتقل إلى المدينة لمَّا أصبحت دار إسلام؛ فصارت معقِلاً لأهل الإسلام، وبقيَ فيها عشر سنوات، أكمل الله فيه الدِّين، وأتمَّ به النِّعمة، وفرض عليه الفرائض، وأوجب عليه الواجبات.
تلك الهجرة التي انتقل فيها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه من بلادهم وأموالهم وأهليهم طاعةً لله: ﴿ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8].
آخَى النبيُّ بين المهاجرين والأنصار، تلك الأخوَّة الصَّادقة المبنيَّة على المحبَّة لله ورسوله: ﴿ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ * لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ [الأنفال: 62 - 63]. ألَّف بينهم بالإسلام؛ فصاروا بالإسلام إخوانًا متحابِّين متناصرين في ذات الله، مجاهدين في الله حقَّ جهاده؛ فرضيَ الله عنهم وأرضاهم، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
ولقد عاش المهاجرون والأنصار في غايةٍ من التآلف والمحبَّة لهذا الدِّين ولمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ولمَّا قسَّم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم غنائم حُنَيْن ولم يُعْطِ الأنصار شيئًا، كأنهم وجدوا في أنفسهم، وقالوا: يرحم الله رسول الله، لقد وجد أهله وقومه، فدعاهم وحدهم. ولكنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال لهم: ((يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلاَّلاً فهداكم الله بي؟! ومتفرِّقين فألَّفكم الله بي؟! وعالةً فأغناكم الله بي؟!)). فكلَّما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أمنُّ. قال: ((أوجدتم عليَّ أن أعطيتُ قومًا أتألَّفُهم في الإسلام؟! المحيا محياكم، والممات مماتكم))[11]. فصلوات الله وسلامه عليه.
تلك الهجرة الصَّادقة التي ألَّف الإيمان فيها بين أولئك القوم، وما كانوا في جاهليَّتهم يتعارفون إلا في ميدان الوَغَى، والبغضاء والعداوة سائدةٌ بينهم، فجاء الله بالإسلام فجمع به القلوب، ووحَّد به الصفَّ، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدِّين.
واعلموا رحمكم الله أنَّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هَدْيُ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم...
[1] أخرجه مسلم في: الصيام، باب: فضل صوم المحرم (1163)، من حديث أبي هريرة رضيَ الله عنه بنحوه.
[2] قصة تأريخ عمر أخرجها الحاكم (3/ 15) من طريق سعيد بن المسيّب، قال: "جمع عمر الناس..."، قال الحاكم: "هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، لكن في سماع سعيد من عمر خلاف، وأخرج الطبري سبب تأريخ عمر في تاريخه (2/ 3) من طريق الشَّعبي قال: "كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر..."، وهو مرسلٌ، وفيه مجالِد ابن سعيد، وهو ضعيفٌ.
[3] أخرجه البخاري في: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((بُعثتُ بجوامع الكلم)) (7273)، ومسلم في: الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد (152) من حديث أبي هريرة رضيَ الله عنه بنحوه.
[4] أخرج ذلك البخاري في: الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2002)، ومسلم في: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء (1125) من حديث عائشة - رضيَ الله عنها.
[5] أخرجه البخاري في: الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2004)، ومسلم في: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء (1130) من حديث ابن عباس - رضيَ الله عنهما.
[6] أخرجه البخاري في الصوم (2006)، ومسلم في الصيام (1132) بنحوه.
[7] أخرجه أحمد (5/ 296)، وأصله في مسلم كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (1162).
[8] أخرجه مسلم في: الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء (1134)، من حديث ابن عباس - رضيَ الله عنهما - بنحوه.
[9] أخرجه أحمد (2154)، والبزار (1052- كشف الأستار)، والحميدي (485)، والبيهقي (4/ 287)، وصحَّحه ابن خزيمة (2095)، لكن في سنده محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى؛ سيئ الحفظ، قال الهيثمي في المجمع (3/ 188-189): "رواه أحمد والبزار وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلامٌ"، وضعَّفه الألباني في ضعيف الجامع (3508)، وصحَّ موقوفًا عند عبدالرزاق (7839) والطحاوي (2/ 78)، والبيهقي (4/ 287).
[10] ثبت ذلك في صحيح البخاري، كتاب: الصوم (1960)، ومسلم في الصيام (1136)، من حديث الربيِّع بنت معوِّذ - رضيَ الله عنها.
[11] أخرجه البخاري في: المغازي، باب: غزوة الطائف في شوال سنة ثمان (4330)، ومسلم في: الزكاة، باب: إعطاء المؤلَّفة قلوبهم على الإسلام (1061) من حديث عبدالله بن زيد رضيَ الله عنه بنحوه.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|