عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرَّم، معظَّم في الجاهلية والإسلام؛ فقد كان أهل الجاهلية يعظِّمون يوم عاشوراء، وكانت قريشٌ تصوم هذا اليوم، وفيه تكسو الكعبة، وكذلك أهل الكتاب.
عاشوراء عنوان الفرح والحزن، عنوان البَسمة والدمعة، عنوان الشكر والصبر، عنوان المِنحة والمِحنة، عنوان السراء والضراء.
أما عاشوراءُ الفرَح:
فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصومه بمكة، فلما هاجر وجَد اليهود يصومونه، فسأل صلى الله عليه وسلم عن سبب الصيام؛ كما رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: "قدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ((ما هذا؟))، قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوهم؛ فصامه موسى)، وزاد مسلم في روايته: (شكرًا لله تعالى؛ فنحن نصومه)، وللبخاري في رواية أبي بشر: ونحن نصومه تعظيمًا له، قال: ((فأنا أحقُّ بموسى منكم))؛ فصامه وأمر بصيامه، في رواية مسلم: هذا يومٌ عظيم، أنجى اللهُ فيه موسى وقومَه، وغرَّق فرعونَ وقومه".
قال ابن رجب: (ويتحصَّل مِن الأخبار أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم أربعُ حالات:
1- كان يصومه بمكة ولا يأمر بصومه.
2- لما قدم المدينة وجَد أهل الكتاب يصومونه ويعظمونه، وكان يحبُّ موافقتَهم فيما لم يؤمر فيه؛ فصامه وأمر به وأكَّد.
3- لما فُرض رمضان ترك التأكيد.
4- عزَم في آخر عمره أن يضم إليه يومًا آخر؛ مخالفة لأهل الكتاب).
وعلى قدر عظمة هذا اليوم، ترتَّب الأجر والثواب لمن تعبد اللهَ بصيامه؛ فعن أبي قتادة رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: ((يكفِّر السنة الماضية))، وهو على نصف فضلِ يوم عرفة؛ فتعبُّد اللهِ بصيام يوم عرفة يكفِّر سنتين الماضية والقابلة، وهذا التمايز جاء على قدر جهة التخصيص، من حيث إن يوم عرفة سنَّة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويوم عاشوراء سنة النبي موسى عليه السلام، فجعل سنَّة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم تضاعف على سنة موسى عليه السلام في الأجر والثواب.
وقد ورَد أن في هذا اليوم أيضًا كان نجاة نوح عليه السلام، وأن موسى عليه السلام نفسه كان يصومه شكرًا لله على نجاة نوح عليه السلام من الطوفان، لما استوت السفينةُ على الجوديِّ في يوم عاشوراء؛ فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكرًا.
وأما عاشوراء الحزن:
فهو الحدَث الجلَل، والخَطْب الكبير، الذي عظُم خبره على الصغير والكبير، العدو والصديق، حدَث لا يهُون في قلوب المؤمنين، مِن شدة ذكراه، فضلًا عن مشاهدته، وهو حدَث استشهاد الإمام الحسين بن علي - رضي الله عنهما - في كربلاء، ولولا أن أم عطية قالت: (كنا نُنهى أن نُحدَّ على ميتٍ فوق ثلاثٍ، إلا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا)، وتعزو ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكان مِثلُ الحسين بن علي رضي الله عنه يستحق استمرارَ الحداد عليه أبدَ الدهر.
فهو سِبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانتُه، وشبيهه في الخَلْق من الصدر إلى القدَمين، وأبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأمه فاطمة الزهراء رضي الله عنها بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنيته أبو عبدالله، ولقبه الشهيد، وهو أحد سيدَيْ شباب أهل الجنة مع أخيه الحسن رضي الله عنه.
تربى في بيت النبوة، ثم في بيت والده، وفي حلقات العلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - على الأخلاق الفاضلة، والعادات الحميدة، حج خمسًا وعشرين حجَّة ماشيًا.
ولما تولَّى يزيدُ بن معاوية الخلافة، بعث إلى الوليد بن عتبة واليه على المدينة ليأخذ البيعة من أهلها، فامتنع الحسينُ عن البيعة؛ لأنه كان لا يُعجبه ما عمِل أخوه الحسَن رضي الله عنه من تنازله عن الخلافة، وتسليمِ الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان، وهو ما أخبر به الرسولُ صلى الله عليه وسلم، ولكن ما فعَله كان موعودًا به؛ فعن أبي بكرة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي، فإذا سجَد وثَب الحسن على ظهره وعلى عنقه، فيرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعًا رفيقًا لئلا يصرع، قال: فعل ذلك غير مرةٍ، فلما قضى صلاته قالوا: يا رسول الله، رأيناك صنعتَ بالحسن شيئًا ما رأيناك صنعته، قال: ((إنه ريحانتي من الدنيا، وإن ابني هذا سيدٌ، وعسى الله تبارك وتعالى أن يُصلِحَ به بين فئتين من المسلمين))، فالحُسين رضي الله عنه يرى أنه الأحقُّ بالخلافة، ولكنه أطاع أخاه الذي كان يرى - كذلك - أحقيتَه بالخلافة، ولكنه آثَر حقن دماء المسلمين، وبايع الحسينُ معاويةَ رضي الله عنهما، ورجع معه إلى المدينة.
وبعد مطالبة والي المدينة بيعة أهل المدينة ليزيدَ؛ خرج الحسين رضي الله عنه إلى مكة، وأقام فيها، ثم أتته كتبُ أهل الكوفة في العراق تبايعه على الخلافة، وتدعوه إلى الخروج إليهم، فأرسَل إليهم ابنَ عمه مسلم بن عَقيل بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ليأخذ بيعتَهم، فطالت غيبةُ مسلم، وانقطعت أخباره، فتجهَّز الحسين رضي الله عنه مع جملة من أنصاره للتوجه إلى العراق، ونصحه بعضُ أقاربه وأصحابه بالبقاء في مكة، وعدم الاستجابة لأهل العراق، ومنهم: عبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن جعفر، وجابر بن عبدالله - رضي الله عنهم.
كما كتبَتْ إليه إحدى النساء، وتسمى (عمرة)، تقول: حدثتني عائشةُ رضي الله عنها: أنها سمعَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يُقتَل الحسينُ بأرض بابل))، فلما قرأ كتابها قال: (فلا بد إذًا من مصرعي).
وخرَج بمَن معه متوجهًا إلى العراق، وفي الطريق قريبًا من القادسية لقِيَه الحرُّ بن يزيد التميمي، فقال له: ارجع؛ فإني لم أدَعْ لك خلفي خيرًا.
وأخبَره أن عبيدالله بن زياد والي البصرة والكوفة قتَل مسلم بن عقيل، فهمَّ الحسين رضي الله عنه أن يرجع ومعه إخوة مسلم، فقالوا: (والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا، أو نقتل)، فتابَع سيره حتى وصل إلى منطقة الطف قرب كربلاء، وكان عدد ما معه من الرجال (خمسة وأربعين) فارسًا، ونحو (مائة) راجل، إضافة إلى أهل بيته من النساء والأطفال؛ حيث إن أهلَ الكوفة خذلوه ولم يوفوا بوعودهم لنصرته.
فالتقى بمَن معه بجيش عبيدالله بن زياد، بقيادة عمرَ بن سعد بن أبي وقاص، وكان معه أربعةُ آلاف فارس، وجرت بينهما مفاوضات لم تسفِرْ عن اتفاق، فهاجم جيش ابن زياد الحسينَ ورجاله، فقاتل الحسينُ ومَن معه قتال الأبطال، واستُشهد الحسين ومعظم رجاله، ووُجد في جسده ثلاثة وثلاثون جرحًا، وكان ذلك في يوم عاشوراء من عام (61هـ)، رحمه الله ورضي عنه.
ولا يسعُ أهلَ الإيمان - في مثل هذه الحوادث العظيمة، والأخبار الأليمة، مع ما يقابلها من موافقة الأفراح والمناسبات السعيدة - إلا أن يتمثَّلوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمرَه كله خيرٌ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراءُ شكرَ؛ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبَر؛ فكان خيرًا له)).
وآخرُ دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين