المكثرون من الرواية من الصحابة
كان الصحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم مَعنيِّين بحفظ الحديث، وكانوا يختلفونَ في ذلك قلةً وكثرةً.
قال أحمدُ بن حنبل: ستةٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثَروا الرواية عنه صلى الله عليه وسلم، وعُمِّروا: أبو هريرة، وابن عمر، وعائشة، وجابر بن عبدالله، وابن عباس، وأنس رضوان الله عليهم، وأبو هريرة أكثرهم حديثًا، وحَمَلَ عنه الثقات[1].
وقد اصطلحَ العلماءُ على وصف من روى أكثرَ من ألف حديثٍ من الصحابة بأنه: من المكثرين، وعددُ هؤلاء سبعةٌ[2].
قال الشيخ أحمد شاكر: وقد اعتمد العلماء في عدِّ أحاديثِ كلِّ صحابي على ما وقع لكل صحابي في مسند بقيِّ بن مخلد[3]؛ لأنه أجمع الكتب[4].
1- فأكثرُ الصحابة روايةً للحديث[5]: أبو هريرة عبدالرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه (تـ59هـ)، وتبلغُ جملةُ مروياتِه (5374) خمسةَ آلافٍ وثلاثَمائةٍ وأربعةً وسبعينَ حديثًا حسب ما جاء في مسند بقي بن مخلد.
2- عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (تـ 73هـ)، وتبلغُ جملةُ مروياتِه (2630) ألفَيْ حديثٍ وستمائة وثلاثينَ حديثًا.
3- أنس بن مالك رضي الله عنه (تـ 93هـ)، وتبلغُ جملةُ مروياتِه (2286) ألفين ومائتين وستة وثمانين حديثًا.
4- أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها (تـ 58هـ)، وعددُ أحاديثها (2210) ألفان ومائتان وعشرة أحاديث.
5- عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه (تـ 68هـ)، وعددُ أحاديثِه (1660) ألف وستمائة وستون حديثًا.
6- جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه (تـ 78هـ)، وعددُ أحاديثِه (1540) ألف وخمسمائة وأربعون حديثًا.
7- سعد بن مالك بن سنان "أبو سعيد الخدري" الأنصاري رضي الله عنه (تـ 74هـ)، وعددُ أحاديثِه (1170) ألفٌ ومائةٌ وسبعون حديثًا[6].
وليس في الصحابةِ مَنْ يزيدُ حديثه على ألفِ حديثٍ سوى هؤلاء، وهذا العددُ يشمل الأحاديث المكررة، فإن العلماء كانوا يعدُّون كل طريقٍ حديثًا[7].
والسببُ في قلةِ مروياتِ كبار الصحابة كأبي بكر رضي الله عنه - مع تقدُّم إسلامه، وشدة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم - هو: تقدُّمُ وفاتِه قبل انتشارِ الحديثِ، واعتناءِ الناسِ بسماعِه وتحصيلِه وحفظِه، مع اشتغاله برسول الله صلى الله عليه وسلم والخلافة من بعده، فجملة ما رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه هو (142) مائة واثنان وأربعون حديثًا[8]، وهو عددٌ لا يناسب مقامه إلا باعتبار ما ذكرناه.
قال الإمام أحمد بن عمر القرطبي عن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه: ومن المعلوم القطعي، واليقين الضروري أنه حَفِظَ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يحفظ أحدٌ من الصحابة، وحصل له من العلم ما لم يحصل لأحدٍ منهم؛ لأنه كان الخليل المباطن، والصَّفِيُّ الملازم، لم يُفارقْه سفرًا ولا حضرًا، ولا ليلًا ولا نهارًا، ولا شِدَّةً ولا رخاءً، وإنما لم يتفرَّغ للحديث ولا للرواية؛ لأنه اشتغل بالأهمِّ فالمهم، ولأن غيره قد قام عنه من الرواية بالمهم[9].
ولعلَّ التفاوتَ الواقعَ في رواياتِ الصحابةِ ما بين مقلٍّ أو مكثر - له أسبابٌ أخرى غير ما ذكرتُ، من أهمِّها:
1- التفاوت الطبيعي بين الصحابة في الحفظ والنسيان؛ فليست ذاكرة الصحابة رضوان الله عليهم متساوية، فمنهم من يسمع الحديثَ الكثير فلا ينساه، ومنهم من يسمع فينسى بعضه؛ "عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم مقامًا، فأخبرَنا عن بدء الخلق، حتى دخل أهلُ الجنة منازلهم، وأهلُ النار منازلَهم، حَفِظ ذلك من حَفِظه، ونسيه من نسيه"[10].
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامًا، ما ترك شيئًا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلَّا حدَّث به، حَفِظه من حَفِظه، ونسيَهُ من نسيَه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيتُه فأَرَاه فأذْكُرُه؛ كما يذكر الرجلُ وجهَ الرجلِ إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه[11].
فهذه الأحاديث وغيرها تدُلُّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّمهم أشياء كثيرة، وأخبرهم بكل ما يحتاجون إليه، فتفاوتوا في الحفظ، ولا شكَّ أن المكثرين كانوا من أحفظ الصحابة.
أضف إلى هذا: الاستعداد النفسي والحرص على التلقِّي، وإنك لتلمس ذلك واضحًا في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه، عندما سأله: من أسعدُ الناسِ بشفاعتِكَ يومَ القيامة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَن لا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلَ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا اللهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ - أَوْ نَفْسِهِ))[12].
مع قول أبي هريرة رضي الله عنه: صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، ما كنتُ سنواتٍ قَطُّ أعقلَ منِّي فيهنَّ، ولا أحبَّ إليَّ أن أَعِيَ ما يقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منهن[13].
2- تفرُّغ الصحابي أو عدم تفرُّغه لسماع الحديث وحفظه وروايته، فلا شكَّ في أن الصحابةَ كانت لهم مشاغلُهم الدنيوية من حِرْفةٍ وزوجةٍ وأولادٍ، ولا شكَّ في أن المتفرِّغ للسماع أوفر حظًّا من الرواية ممن شُغِل بغيرها، وقد أدرك الصحابةُ هذا الأمر، وأدرَكوا أنه سببٌ مباشرٌ لكثرة الحديث أو قلته:
قال أبو هريرة رضي الله عنه - أكثر الصحابة روايةً للحديث -: إنكم تقولون: إن أبا هريرة يُكْثِر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: ما بالُ المهاجرين والأنصار لا يُحَدِّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي هريرة؟ وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفْقُ بالأسواق، وكنت ألزَمُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على مِلْءِ بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عملُ أموالهم، وكنتُ امرأً مسكينًا من مساكين الصُّفَّة، أَعِي حين ينسون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثٍ يُحدِّثه: إنه لن يبسط أحدٌ ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه، ثم يجمع إليه ثوبه، إلا وعى ما أقول، فبسطتُ نَمِرَةً عليَّ حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، جمعتُها إلى صدري؛ فما نسيتُ من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك من شيء[14].
وحينما جاء رجلٌ إلى طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه - أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة - وقال له: يا أبا محمد، والله ما ندري هذا اليماني أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم أم أنتم، تقولون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل؟ - يعني أبا هريرة - فقال طلحة: والله ما نشكُّ في أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنَّا كنا قومًا أغنياء، لنا بيوتٌ وأهلون، كنا نأتي نبي الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ثم نرجع، وكان أبو هريرة مسكينًا لا مال له ولا أهل ولا ولد، إنما كانت يده مع يد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدور معه حيثما دار، ولا نشك في أنه قد علم ما لم نعلم، وسمع ما لم نسمع، ولم يتهمه أحدٌ منا أنه تقوَّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يَقُلْ[15].
ولذلك حينما دعته عائشة رضي الله عنها وقالت له: يا أبا هريرة، ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنك تحدِّث بها عن النبي صلى الله عليه وسلم، هل سمعتَ إلا ما سمعنا، وهل رأيتَ إلا ما رأينا؟ فقال أبو هريرة رضي الله عنه: يا أُمَّاه، إنه كان يشغلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المرآةُ، والمكحلة، والتصنُّع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني والله ما كان يشغلني عنه شيءٌ[16].
3- تقدُّمُ وفاةِ الصحابي قبل انتشارِ الحديثِ واعتناءِ الناسِ بسماعه وتحصيله وحفظه، فأغلبُ الذين تقدَّمتْ وفاتُهم أقلُّ روايةً ممن تأخَّرت وفاتهم، واحتاجَ الناسُ إلى ما عندهم من العلم، خاصةً إذا تصدَّروا للتحديث والإفتاء.
4- اشتغال عددٍ كبيرٍ من الصحابة بالعبادة، والجهاد في سبيل الله، وفتح البلاد والأمصار، وعدم تصدُّرهم للتحديث والفتوى؛ مما جعل الروايةَ عنهم قليلة قياسًا بنظرائهم من الصحابة.
5- خوفُ عددٍ كبيرٍ من الصحابةِ من التحديث؛ خشيةً من وقوع الزيادةِ أو النقصانِ في حديثهم، مما قد يُدْخِلُهُم تحت طائلة الذين يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم؛ مما جعلهم حريصين في التحديثِ ومُقِلِّين في الرواية: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: إنه ليمنعُني أن أُحدِّثكم حديثـًا كثيرًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))[17].
وقال عبدالله بن الزبير رضي الله عنه: قلتُ للزبير رضي الله عنه: إني لا أسمعُك تُحدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يُحدِّث فلان وفلان؟ قال: أما إني لم أُفارقْه، ولكن سمعتُه يقول: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))[18].
فقد أكثَرَ من رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعةٌ من الصحابة رضوان الله عليهم، لكل واحدٍ منهم أكثرُ من ألف حديث، وأحدَ عشرَ صحابيًّا لكل واحدٍ منهم أكثر من مائتي حديث، وواحدٌ وعشرون صحابيًّا لكلِّ واحدٍ أكثرُ من مائة حديث، وأما أصحاب العشرات، فكثيرون يقربون من المائة، وأما من له عشرة أحاديث أو أقلُّ من ذلك، فهم فوق المائة، وهناك نحو ثلاثمائة صحابي روى كل واحدٍ منهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديثًا واحدًا[19].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|