في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم (2 /5)
يحمل إلينا ربيع الأول في كل عام ذكرى حبيبة غالية على قلب كل مسلم، هي ذكرى الميلاد النبوي الشريف، التي تعبق بشذاها العاطر الأيام، وتشدو بجمالها وجلالها الأجيال والأعوام، والتي تظل كوكبًا دُرِّيًّا في مسيرة الزمان، ونقطة تحوُّلٍ كبير، ونقلة ضخمة في تاريخ الحضارة والإنسان، ذكرى كريمة غالية، ما أكثر ما وقف عندها القُصَّاص والكُتَّاب، والأدباء والفصحاء، والشعراء والمؤرخون! يستنبطون منها العِبَرَ، ويستخرجون منها الدروس، مأخوذين بعظمتها وغناها، وسعتها وتفوُّقها، ثم لا يَبْلى الحديث، ولا تتوقف الأقلام، ولا تنضب القرائح، ويظل الكلام جديدًا وأثيرًا وغاليًا، وتظل النفوس تهفو إليه، وهي دائمًا تطلب المزيد، ويظل الموضوع قادرًا على أن يفتِّق أبوابًا من الحديث لا نهاية لها، ويظل قادرًا على العطاء الدائم وكأنه المنجم البكر والغابة العذراء.
ونحن نقف اليوم وقفة المعتبر بأحداث التاريخ، المعتز بعظمة ومجد الإسلام، وجلال وشموخ أمة الإسلام، المفتخر بالانتماء إلى سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، وقائدًا وزعيمًا، وقدوة وأسوة، المتمسك بالدين العظيم الذي جاء به، والقرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى عليه.
وتنثال على المرء العِبَرُ والذكريات، وتتسع به طرق الحديث وتتشعب، ويجد نفسه أمام بحر زاخر إزاء العظمة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فيتوقف بعض الشيء فيما يذكر من ذلك.
أيذكر يوم الميلاد، وما ترتب عليه من نتائج؟
أيذكر النشأة الطاهرة المبرَّأة قبل البعثة بكل ما فيها من تفوق وسمو، وتألق وشموخ، وعظمة وكمال؟
أيذكر البعثة الطاهرة بما صحبها من جهاد كريم صادق، وتضحية وبطولة، وإخلاص منقطع النظير، ومن نزول القرآن الكريم دستورًا كاملًا ومنهج حياة، ومن هدمٍ لصروح الشرك والطاغوت، وطيٍّ لأعلام الجاهلية التي أشقَتِ الناس، ومن حرب للفساد والضلال لا هوادة فيها؟
أيذكر ما أعقب انتشار الدعوة، وكفاح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحبه الأوفياء الكرام من أجل إبلاغها للناس كافة؟
أيذكر الهجرة الشريفة وانتصارات الإسلام الأولَى في بدر وغير بدر من خالد الانتصارات؟
أيذكر الإسلام العظيم الذي أعزَّ الإنسانية، ورفع كرامة الإنسان، وأقام لها أكرم وأكمل مجتمع بشري أمثل، وحرر المستضعفين والأرقَّاء والمساكين، وأشعرهم بقيمتهم الإنسانية كاملةً غيرَ منقوصة، وحقق العدالة والمساواة والتآخي، ونشر الإسلام والتعاون والفضائل، والحرية والعزة والأمان، وما شئت من كريم الفضائل والأخلاق، فإذا بفجر السعادة الإنسانية، تشرق على الدنيا أنواره، وتنمو فيها وروده وأزهاره، وتضوع عاطرةً مُمَسَّكَةً آثاره؟
أيذكر الدين العظيم الكريم، الذي ربَّى أبطالًا وأجيالًا، وشاد ممالكَ ودولًا، ونشر ألويته في الشرق والغرب، فتُليَ القرآن الكريم في الصين، وارتفع الأذان في فرنسا والأندلس، وأقام أعظم الحضارات، وأرسى أشرف المبادئ والأنظمة والقوانين؟
أيذكر كيف هزَّ دينه العظيم الدنيا جميعًا، فقدَّم موازين للتفاضل والتمايز أدق وأصح وأكمل، وضوابط للأخلاق أسلم وأعظم وأشمل، ونظرة للوجود رحيبة واسعة، وتصورًا للكون والإنسان والحياة أغنى وأسمى وأطهر، وطفق يجتاح معاقل السوء والشر في العالم، حربًا على الطغيان والظلمة، والجَور والإرهاب، والفقر والتخلف، والجهل والفوضى، والتأخر والجمود؟
لقد كان المولد النبوي الشريف، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، مقدمةً لهذا كله ولكثير سواه، في غاية الخصب والعظمة والتفوق، كان مقدمةً لانتصارات رائعة ظافرة في عالم الضمير وعالم الواقع، في عالم الفرد وعالم الجماعة، في عالم الأسرة وعالم الدولة، في عالم الحاكم والمحكوم، والحضارة والقانون، والتصورات والموازين، والأهداف والغايات، والوسائل والطرق، والقيم والمثل، انتصاراتٍ في كل هذه العوالم وفي غيرها، وعلى كل الأصعدة والمستويات، انتصاراتٍ حققت للإنسانية ما كانت تصبو إليه من أمانٍ وآمال، وافتتحت لها عهدًا جديدًا هو أكرم عهودها على الإطلاق.
وفي تاريخ الإنسانية الطويل، كم وُلِد من أكاسرة وقياصرة، وقادة وحكَّام، وأصحاب دعوات ومبادئ، ولكن لم تشهد البشرية كلها ميلادًا أجلَّ، ولا أعزَّ، ولا أكرم، ولا أنبل، ولا أمجد من ميلاد محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
فلقد قاد رسولنا الكريم العظيم مسيرة الحياة، وقافلة الحضارة، إلى حيث الهدى والنور، والصدق والعدل، والتوحيد والإيمان، وكان الرائد الهادي المبارك، لمواكب البشرية الطويلة الزاحفة في تِيهِ الحياة، تنشد النور، وتطلب العدل، وتريد السلام، وتسعى لحياة حرَّة كريمة، هانئة آمنة، فحقق لها المصطفى عليه الصلاة والسلام ذلك كله، وقادها في درب السعادتين؛ سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة.
ولئن كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد أفضى إلى ربِّه عز وجل، فإن الإسلام العظيم الذي بُعث به قادرٌ باستمرار على تحقيق هاتين السعادتين للناس، ما استمسكوا به بحقٍّ وصدق، ومنحوه ولاءهم الجادَّ الكامل.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|