السيرة ووجوب معرفة أحوال الجاهلية (2)
المطلب الثاني: ماذا نقصِد بالجاهليَّة؟
الجاهليَّة: "هي ما يَحمله الفرْد المعاصر من بُعْد عن المنهج الإلهي، وإن كانت تُحيط به مظاهر الحضارة"[1]، وهي فترة مقابلة للإسْلام لا تنحصِر في فترة زمنيَّة محدَّدة بعصرِ ما قبل الإسلام، بل هي اتِّباع الباطل في أيِّ عصْرٍ وفي أيِّ مكان، ودليلُ ذلك أنَّه في عزّ ظهور الإسلام قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأبي ذرّ - رضِي الله عنْه - وهو مَن هُو في المكانة بين الصَّحابة: ((إنَّك امرؤ فيك جاهليَّة))[2]؛ ولذلِك جاء في الحديث: ((إنَّ الله قد أذْهَب عنكم عُبِّيَة الجاهليَّة))[3].
"فالجاهليَّة حالة وُجِدت كثيرًا في التَّاريخ البشَري، في الجزيرة العربيَّة وفي غيرها، وإنَّها قابلة للعوْدة حيثُما وُجِدَت عناصرُها ومقوِّماتُها في أيِّ عصر وفي أيِّ قرنٍ من القرون"[4].
إنَّ كثيرًا من الناس يعتقِدون أنَّ فترة الجاهلية هي الفترة التي سبقتِ الإسلام ولن تعود مرَّة أخرى، وهذا مفهوم ضيِّق ولا يوضِّح دلالة هذه اللَّفظة على حقيقتِها.
إنَّ دلالةَ هذه اللَّفظة عند كثيرٍ من النَّاسِ إنِ استخْدَمْناها، فإنَّه يصرِفُها إلى عهد ما قبْل الإسلام، وهذا هو التَّعبير المتعارف عليه، وهذا يدلُّ على أنَّ هذا الصِّنف يكذب على نفسِه صراحة حين يعتقِد أنَّه ما عاد هناك جاهليَّة.
"فالجاهليَّة هي حكْم البشَر للبشر، أو عبوديَّة البشْر للبشر، وهي ليْست فترةً من الزَّمان ولكنَّها وضْع من الأوضاع، هذا الوضْع يُوجَد بالأمس ويوجَد اليوم ويوجد غدًا، فيأخذ صفة الجاهليَّة المقابلة والمناقِضة للإسلام"[5]، "إنَّه على قدْر معرفتنا بأعماق الجاهليَّة في النَّفْس البشريَّة وفي واقع الحياة، نسْتطيع أن نتعرَّف على أعْماق الإسلام ودوْره في حياة الإنسان"[6]، كما أنَّ هناك فارقًا هامًّا بين مظاهِر الجاهليَّة وجوْهر الجاهليَّة، وقد أدى الخلْط بيْنهما إلى وجود "قصور كبير في تصوُّر الجاهليَّة والإسلام كليهِما، فإنَّه ينبغي على أيِّ حال أن يصحَّح؛ لكيْ نفهم حقيقة الدَّور التَّاريخي الَّذي قام به الإسلام بالنِّسْبة للمسلمين، والَّذي يمكن أن يؤدِّيه للبشريَّة على امتداد الزَّمان.
فالجاهليَّة ليستْ حدثًا قائمًا بذاتِه؛ إنَّما ظاهرةٌ بشريَّة عامَّة في غيْبة الإسلام، قابلة للوجود في أيِّ زمان وأيِّ مكان وأيِّ وضْع حضاري، والواقِع والتَّجربة يؤكِّدان أنَّ النَّاس لا يتبيَّنون حقيقة الإسلام حتَّى يتبيَّنوا حقيقة الجاهليَّة"[7].
وهذه هي المعادلة الَّتي فشل كثيرٌ من المسلمين في إيجاد مخرج لها، أو على الأقلِّ إيجاد طريقة مُثلى للتَّعامل بالمظهر الإسلامي مع الواقِع الجاهلي.
فعِندما تصطَدِم معصية جاهليَّة واقعة في دُنيا النَّاس اليوم - كالغناء - مع نصٍّ قطعيٍّ لتحريمه[8]، هذا الواقع تجِد كثيرًا من النَّاس ومِن بيْنهم "أنُاس ألسنَتُهم أحلى من العسل"[9]، وأشباه دعاة يهْدون بغير هدْي النبي[10]، يُحاولون التَّوفيق الرَّائق والمبدع بين "الواقِع الجاهلي" و "النَّصّ" للخُروج من هذا التَّناقُض بين واقع الجاهليَّة ومُحاولة التَّجميل الإسلامي لها للمُعايشة السلميَّة بيْنهما، وهذا يفعلُه كثيرٌ من "الكبار" الَّذين يُشار إليهم ما بين سلطة دينيَّة متصوِّفة، وسلطة ثقافيَّة علمانيَّة.
"فلا بدَّ لنا أن نعرِف الجاهليَّة على حقيقتِها لكي نعرِف الإسلام على حقيقتِه، ونعرف دوْرَه في حياة البشر"[11]، ولا سبيل لنا لهذه المعرفة إلاَّ مِن خلال دراستِنا للسيرة النبويَّة دراسةً مستفيضة، فإنَّ ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الإنسان لكي يدْرِك استقامة النّور عليه أن يستشْعِر إغراقه الظلام؛ فالإسلام نور والجاهليَّة ظلام.
يقول الشَّيخ محمَّد قطب: "إنَّ الجاهليَّة ليستْ محصورةً في عبادة الأصنام، ووأْد البنات، وشرْب الخمر ولعب الميسر، وغارات السَّلْب والنَّهب ... إنَّما هذه كانت "مظاهر" الجاهليَّة في الجزيرة العربيَّة قبل الإسلام، أمَّا الجاهليَّة ذاتها فهي الجوْهر الَّذي تصدر عنه هذه المظاهر، وقد تصْدُر عنه مظاهر مختلفة تمامًا في مكانٍ آخَر أو زمان آخَر، كما حدث بالفِعْل خلال التَّاريخ، ولكن الجوْهر هو الجوهر في جميع الحالات: الجهل بحقيقة الألوهيَّة واتِّباع غير ما أنزل الله.
هذا الجوْهر هو حالة عقليَّة تَجهل الحقَّ وتتمسَّك بالخرافة، وحالة نفسيَّة ترفض الاهتداء بهدْي الله، ووضْع تنظيمي سلوكي يرفض اتِّباع منهج الله، وهو ظاهرة بشريَّة تحدث للبشَر في أي مكان أو زمان لا يكون الإسْلام هو الحاكم في تصوُّرات النَّاس، ومشاعِرِهم وواقع حياتِهم، وليس منحصرًا في زمان ولا مكان، ولا بيئة، ولا وضْع اقتِصادي أو اجتماعي أو سياسي أو حضاري معيَّن، فكما أنَّ الإسلام يُمكن أن يوجَد في أيِّ زمان ومكان وبيئة حين يعبد النَّاس اللهَ حقَّ عبادتِه ويتَّبعون شريعتَه، فكذلك الجاهليَّة يُمكن أن توجَد في أي زمان أو مكانٍ أو بيئة أو وضع، حين يرفُض النَّاس الاهتداء بهدي الله ويتَّبعون غير منهج الله، ولا بدَّ لنا أن نبيِّن للدَّارسين جوْهر الجاهليَّة بوضوح لا غبشَ فيه، بيانًا للحقيقة العلميَّة أوَّلاً، وتجْلِية للغموض الَّذي يغشِّي أفكار الدَّارسين حين يظنُّون أنَّ الجاهليَّة حالة مفردة وجِدَتْ في الجزيرة العربيَّة قبل الإسلام ولم توجَد في غيرها، ولن تعود"[12].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فإذا تبيَّن ذلك فالنَّاس قبل مبعث الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانوا في حال جاهليَّة منسوبة إلى الجهل، فإن ما كانوا عليْه من الأقوال والأعمال إنَّما أحدثه لهم جهَّال، وإنَّما يفعله جاهل، وكذلك كلّ ما يُخالف ما جاء به المرسلون من يهوديَّة ونصرانيَّة فهو جاهليَّة، وتلك كانت الجاهليَّة العامَّة، فأمَّا بعد ما بعثَ الله الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فالجاهليَّة المطلقة قد تكون في مصرٍ دون مصر كما هي في دار الكفَّار، وقد تكون في شخصٍ دون شخصٍ كالرَّجُل قبل أن يسلم، فإنَّه يكون في جاهليَّة وإن كان في دار الإسلام، والجاهليَّة المقيَّدة قد تقوم في بعض دِيار المسلمين وفي كثيرٍ من المسلمين"[13].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|