وقفات أسرية مع سورة النور (2)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فقد أمرنا الله تعالى بتدبر كتابه، فقال سبحانه: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].
فما كان فيه من ترغيب وترهيب يرقِّق قلب المسلم، وما كان فيه من أحكام يطبقه وينفذه، وما كان فيه من قصص يعتبر به، وما كان فيه من توحيد يؤمن به، وهذا الكتاب العظيم يصبغ حياة المسلم بصبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة في جميع شؤونه روحيًّا ونفسيًّا وجسديًّا وعقليًّا، فيكون عبدًا ربانيًّا، جعلنا الله وإياكم منهم.
وأحكام القرآن الكريم بحث فيها العلماء وصنَّفوا فيها واهتموا بها؛ لأنها تقرر الفرائض والنوافل والعبادات والتشريعات التي يحتاجها المسلم في حياته، ومن السور الجليلة التي جمعت الكثير من أحكام القرآن الكريم سورة النور، وهي تختص بأحكام الأسرة، ونحن في حاجة إلى رجوع أسرنا إلى كتاب الله سبحانه؛ ليكون المجتمع سعيدًا متماسكًا متعاونًا، ويكون مثالًا للمجتمعات الأخرى المتفككة في الشرق والغرب التي تبحث في الأنظمة البشرية عن علاج لها فلا تجد.
ونحن بين يدينا كتاب الله سبحانه فيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، من ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله، وقد نظر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القرآن، فأمر المسلمين بتعلُّم سورة النور لما فيها من فرائض الأسرة، وهو من هو في سعة علمه وعُمق تدبُّره لكتاب الله رضي الله عنه، وحريٌّ بنا نحن أيضًا أن نتعلَّم توجيهات وأحكام هذه السورة العظيمة التي بتوجيهاتها وأحكامها يُحفظ المجتمع، ويسود الأمن، وتستقر الأسر، وتعم العفة، ونلاحظ أن السورة الكريمة ركَّزت في أكثر توجيهاتها على السمع والبصر واللسان، وكأنها تفسيرٌ وتفصيلٌ لقول الله تعالى فيها: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، فأحكام السمع للقاذفين للعرض بالإفك والكلمات الخبيثة، وأحكام البصر للحجاب والاستئذان وغض البصر، وأحكام اللسان للسلام والقذف، وهما بين الكلام الخبيث والطيب، وما أحوجنا أن نستسلم لله تعالى بحفظ هذه الجوارح الثلاثة، فمن حفظها فهو من المفلحين.
فالاستئذان الذي شرَعه الله تعالى يُراد به حفظ الأعراض وسد ذرائع الشر والفساد الأسري والاجتماعي، ولله تعالى الحكمة البالغة: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، إنه سبحانه يعلم مداخل نفوس البشر حين يطَّلع بعضهم على عورة بعض من الأقارب وغيرهم، وما يتبع ذلك من الشهوات والخطرات والنيات والممارسات؛ قال الله تعالى في هذه السورة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النور: 27]، ومعنى تستأنسوا؛ أي: تستأذنوا، والاستئذان يرتبط بالسلام، فيقول المستأذن: السلام عليكم أأدخل؟
وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم قدر الاستئذان بقوله: (الاستئذان ثلاث، فإن أُذن لك وإلا فارجع)؛ رواه البخاري ومسلم، فإن كان أهل البيت لا يناسبهم الإذن للقادم بالدخول، فعليه أن ينصرف ولا يجد في نفسه غضاضة؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 28].
والحكمة من الاستئذان أن يتحرَّز المسلم أن ينظر إلى عورة أهل البيت، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما جُعِل الاستئذان من أجل البصر)؛ رواه البخاري، لذا فمن تجاسر واطَّلع على عورة أهل البيت بلا إذنهم ولا استئذان، فلهم الحقُّ في دفعه ولو بالقوة، فقد كان رجل ينظر في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتحة بالباب دون إذن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحاول أن يفقأ عينه بمشط معه؛ لأن العورات لها خطر في الإسلام، لا كما يشيع هذه الأيام دعاة الفتنة والضلال برفع العيب وخلع الحياء، قاتلهم الله، ويكمل الله تعالى التربية الإيمانية للأسرة في هذه السورة بتوجيه الأبناء بالاستئذان على الكبار في البيت؛ ليعتادوا على غض البصر ويتربوا على العفة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [النور: 58].
إن الله تعالى أمرنا ذكورًا وإناثًا في هذه السورة الكريمة بغض البصر: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ [النور: 30، 31]، وإنما قال الله تعالى (من أبصارهم)؛ لأن المسلم يحتاج إلى البصر لينظر فيما ينفعه، فإن البصر نعمة من الله سبحانه، يستعملها في الخير كما قال الله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 17 - 20]، ولكنه يغض بصرَه فقط عما حرَّم الله من النساء، لذا شرع الحجاب: ﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ [الأحزاب: 53]، ويعرض عن النظر إلى المنكرات: ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [الفرقان: 72]، ولا يتطلع إلى الترف والمترفين: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 131]، ولا يتتبَّع عورات الناس: (احفظ عورتك إلا من زوجتك وما ملكت يمينُك)؛ رواه أبوداود والترمذي.
والبصر المحرم إن بالغ الإنسان فيه أدَّى إلى المهالك، وربما نظر رجل إلى امرأة فافتتن بها، فصار كالخاتم في إصبعها تديره كيف شاءت ولو على حساب دينه، وربما على حساب إسلامه عياذًا بالله، فهل هذا من العقلاء؟ لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من رأى امرأةً متبرجةً خطأً أن يصرف به، وقال: (لك الأولى وليست لك الثانية)؛ رواه الترمذي.
♦♦♦♦♦
الخطبة الثانية
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أَولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة)، أما بعد:
فإن من حكمة الله تعالى أن شرع الحجاب، وهو يتمِّم ما أمر به سبحانه من غض البصر، فإن شريعة الحجاب للنساء تُعين المسلم والمسلمة على العفة؛ قال الله تعالى في هذه السورة سورة النور: ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنّ..... ﴾ [النور: 31]، وقد كان المسلمات أول الإسلام لم يؤمرن بالحجاب، فلما أُمرن بذلك بادرنَ إلى الستر، حتى من لم تجد الحجاب استعارت غطاءً لرأسها، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَل لما أنزل الله ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾، شَققن مُرُوطهنَّ فاختمرْنَ بها؛ رواه البخاري.
ولا تغترُّ المسلمة بما يقال إن الحجاب تقييد للمرأة، بل هو تعبُّدٌ لله تعالى واختبار لها ورفعة لدرجاتها وحفظ لعرضها، كما يؤمر الرجل بستر العورة وغض البصر، فليس الغرض من الحجاب شهواني فقط، وكأن المسلمين خُلقوا للنكاح وملاحقة النساء كما يصوِّر ذلك المرجفون والمغرضون، يؤمن المسلم والمسلمة بالله ربًّا والإسلام دينًا، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، فيستسلم لله تعالى في كل أمر، ولا يتردد اختيارًا لا إجبارًا، ويعلم أن الحكمة والخير في اتباع أمر الله تعالى في الدنيا والآخرة، فاتَّقوا الله عباد الله ولا تستمعوا للجهلة الذين لا يقيمون وزنًا للدين والإيمان، وانظروا ما جناه التبرُّج في المجتمعات الكافرة من اختلاط للأنساب وتفكك للأسر، وخيانات للأزواج والزوجات، وانتشار للجريمة.
ألا ما أجمل الإسلام الذي يحمي المسلم والمسلمة، ويُعينهما على العفَّة، ومما يتمِّم ستر المرأة أن يُبكَّر في زواجها، فقال سبحانه في هذه السورة العظيمة سورة النور: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 32]، فمن كان ذا سعةٍ فليبكر في زواجه، ومن كان ذا ضيق، فقد قال الله تعالى: ﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النور: 33].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|