نشأ
رسول الله في بيئة صحراوية لا تعرف الزراعة ولا الصناعة إلا قليلًا وإنما كانت التجارة هي مصدر عيشهم، وكان الذين يمارسون التجارة من سكان الجزيرة العربية هم أهل المدن، ولا سيما أهل مكة فقد كان لهم مركز ممتاز في التجارة، وكان لهم بحكم كونهم أهل الحرم منزلة في نفوس العرب فلا يعرضون لهم، ولا لتجارتهم بسوء، وقد امتن الله عليهم بذلك في القرآن الكريم: ﴿
أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ ﴾ [العنكبوت: 67].
وقد ابتُلِي
العرب بتخلف ديني شديد، ووثنية سخيفة لا مثيل لها، وانحرافات خُلقية، واجتماعية، وفوضى سياسية، وتشريعية، ومن ثم قل شأنهم وصاروا يعيشون على هامش التاريخ، ولا يتعدون في أحسن الأحوال أن يكونوا تابعين للدولة الفارسية أو الرومانية، وقد امتلأت قلوبهم بتعظيم تراث الآباء والأجداد واتباع ما كانوا عليه مهما يكن فيه من الزيغ والانحراف والضلال ومن ثَم عبدوا الأصنام، فكان لكل قبيلة صنم[1].
وقد حالت هذه الوثنية السخيفة بين العرب، وبين معرفة الله وتعظيمه وتوقيره والإيمان به، وباليوم الآخر وإن زعموا أنها لا تعدو أن تكون وسائط بينهم وبين الله، وقد هيمنت هذه الآلهة المزعومة على قلوبهم وأعمالهم وتصرفاتهم، وجميع جوانب حياتهم، وضعف توقير الله في نفوسهم قال تعالى: ﴿
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [الأنعام: 36].
أما البقية الباقية من دين إبراهيم عليه السلام فقد أصابها التحريف، والتغيير والتبديل، فصار الحج موسما للمفاخرة والمنافرة، والمباهاة وانحرفت بقايا المعتقدات الحنيفية عن حقيقتها وألصق بها من الخرافات والأساطير الشيء الكثير.
أما عن
أخلاق العرب فقد ساءت، حتى أنهم أولعوا بالخمر والقمار، وشاعت فيهم الغارات وقطع الطريق على القوافل، والعصبية والظلم، وسفك الدماء، والأخذ بالثأر، واغتصاب الأموال، وأكل مال اليتامى، والتعامل بالربا، والسرقة والزنا... وكانت التقاليد والأعراف قد هيمنت على حياة العرب، وأصبحت لهم قوانين عرفية فيما يتعلق بالأحساب والأنساب، وعلاقة القبائل ببعضها والأفراد كذلك، فكانت كل قبيلة من القبائل العربية لها شخصيتها السياسية، وهي بهذه الشخصية كانت تعقد الأحلاف مع القبائل الأخرى، وبهذه الشخصية أيضًا كانت تشن الحرب عليها... وكانت الحروب بين القبائل على قدم وساق، فقد تكون أسبابها شخصية أحيانًا، أو طلب العيش أحيانًا أخرى، إذ كان رزق بعض القبائل في كثير من الأحيان في حد سيوفها، ولذلك ما كانت القبيلة تأمن أن تنقض عليها قبيلة أخرى في ساعة من ليل أو نهار لتسلب أنعامها ومؤنها، وتدع ديارها خاوية كأن لم تسكن بالأمس[2]، وقد قضى الإسلام على ذلك حتى كانت تسير المرأة والرجل من صنعاء إلى حضرموت لا يخافان إلا الله والذئب على أغنامهما[3].
ولم يكن العرب أهل كتاب وعلم كاليهود والنصارى، بل كان يغلب عليهم الجهل والأمية، والتقليد والجمود على القديم - وإن كان باطلا - وكانت أمة العرب لا تكتب ولا تحسب وهذه هي الصفة التي كانت غالبة عليها، وكان فيهم قليل ممن يكتب ويقرأ ومع أميتهم وعدم اتساع معارفهم فقد كانوا يشتهرون بالذكاء، والفطنة، والتهيؤ لقبول العلم والمعرفة، ولذلك لما جاء الإسلام صاروا علماء، حكماء، فقهاء، وزالت عنهم الأمية، وأصبح العلم والمعرفة من أخص خصائصهم، وقد وضح ذلك عند حديثنا عن حضارة الإسلام[4].
وكانت المرأة عند كثير من القبائل كسقط المتاع، فقد كانت تورث، وكانوا لا يورثون البنات ولا النساء ولا الصبيان، ولا يورثون إلا من حاز الغنيمة وقاتل على ظهور الخيل، وبقي حرمان النساء والصغار من الميراث عرفا معمولًا به عندهم إلى أن نزل قوله تعالى: ﴿
لِلرِّجَالِ نَصِيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ﴾ [النساء: 7]، وكان العرب يُعيّرون بالبنات؛ وكثيرا ما كانوا يختارون دسها في التراب، ووأدها حية، ولا ذنب لها إلا أنها أنثى، وقد حدثنا القرآن الكريم عن حالة من تولد له بنت فقال تعالى: ﴿
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: 58-59].
وكان بعض العرب يقتل أولاده من الفقر أو خشية الفقر فجاء الإسلام وحرم ذلك قال تعالى: ﴿
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ [الأنعام: 151]، وقال تعالى: ﴿
وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء:31].
وقد كان من سنن الله عز وجل في هذه الحياة، أن جعل لكل بداية نهاية، فمع اليوم غدًا، وبعد الحدث جدثًا، ولكل مولود يوم موعود، وهذه سنة الله في الذين خلو من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلًا، فكم من حضارة قامت وازدهرت ثم ما لبثت أن تبدلت وتبددت. ولكن جعل الله لهذه السنن أسبابًا ونواميس وقوانين؛ حتى يسهم البشر في صنعها؛ في تقديمها و تأخيرها، بحسب علمهم وحلمهم. وحتى يكون الجزاء من جنس العمل، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
فهكذا لمّا اندرست معالم التوحيد في أرض الجزيرة وترك الناس ملة الحنيفية خلا نفر قليل، واجتالت الشياطينُ البشرَ فتاهوا بين وثنية، ومجوسية، ويهودية، ونصرانية، (وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلاّ بقايا من أهل الكتاب)[5]، أمست حضارة العرب في حضيض وغدو في شر حال[6] وآذن الناس بهلاك، ولكن اقتضت رحمة الله أن ينبثق فجرٌ وأن يُبعث رسولٌ يخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ويهديهم إلى صراط مستقيم:
لمّا أطل محمدٌ زكت الربى ♦♦♦ واخضر في البستان كل هشيمِ
فألف الله به بين الشمل وجمع به بين القلوب وعصم به من كيد الشيطان... واقتضت حكمته أن تكون أرض النبوة الخاتمة والرسالة العالمية الخالدة هي أرض الجزيرة العربية. ليبلغ أهلها رسالة ربهم إلى الناس كافة "فالعرب هم حملة شريعة الإسلام إلى سائر المخاطبين بها.. لأنهم يومئذ قد امتازوا من بين سائر الأمم باجتماع صفات أربع لم تجتمع في التاريخ لأمة من الأمم، وتلك هي: جودة الأذهان، وقوة الحوافظ، وبساطة الحضارة والتشريع، والبعد عن الاختلاط ببقية أمم العالم. فهم بالوصف الأول: أهل لفهم الدين وتلقيه. وبالوصف الثاني: أهل لحفظه، وعدم الاضطراب في تلقيه. وبالوصف الثالث: أهل لسرعة التخلق بأخلاقه، إذ هم أقرب إلى الفطرة السليمة... وبالوصف الرابع: أهل لمعاشرة بقية الأمم، إذ لا حزازات بينهم وبين الأمم الأخرى"[7].