من الشمائل والصفات المحمدية .. الوفاء
الوفاء من أبرز سمات نبي الرحمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - القائل: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك))[1].
وقد شهِد أبو سفيان - وهو لم يكن آمنَ بعدُ - عند هرقلَ ملكِ الروم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان داعيًا إلى الوفاء وحِفظ العهود، وهذه شهادة من عدوٍّ، والفضلُ ما شهدت به الأعداء.
فعن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: أخبرني أبو سفيان أن هِرَقل قال له: "سألتُك ماذا يأمركم، فزعمتَ أنه أمركم بالصلاة والصِّدق والعَفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي"[2].
وروى أبو داود عن أبي رافع قال: "بعثَتْني قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُلقي في قلبي الإسلام، فقلتُ: يا رسول الله، إني والله لا أرجع إليهم أبدًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لا أخيس بالعهد، ولا أَحبس البُرد، ولكن ارجع فإن كان في نفسِك الذي في نفسك الآن، فارجع))، قال: فذهبتُ ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت"[3].
قال الخطابي:
"يُشبه أن يكون المعنى في ذلك أن الرسالة تقتضي جوابًا، والجواب لا يَصِل إلى المرسل إلا مع الرسول بعد انصرافه، فصار كأنه عقد له العقد مدة مجيئه ورجوعه.
قال: وفي قوله: لا أخيس بالعهد: أن العهد يُراعى مع الكافر كما يراعى مع المسلم، وأن الكافر إذا عقد لك عقد أمان، فقد وجب عليك أن تؤمِّنه ولا تغتاله في دم ولا مال ولا منفعة"[4].
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى قادة الجيش عن الغَدر ويوصيهم بالوفاء والأمانة؛ فعن سليمان بن بُرَيدة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعَث أميرًا على جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، فقال: ((اغزوا بسم الله، وفي سبيل الله، قاتِلوا من كفر، اغزوا ولا تغلُّوا، ولا تغدِروا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا))[5].
"ولا تَغدِروا" بكسر الدال؛ أي: لا تنقضوا العهد، وقيل: لا تُحاربوهم قبل أن تدْعوهم إلى الإسلام[6].
وقد عدَّ الرسول إخلاف الوعد والغدر بعد العهد من صفات المنافقين الذين هم أسوأ الكفار مكانة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((آية المُنافِق ثلاث؛ إذا حدَّث كذَب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))[7].
وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أربع مَن كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدَعَها: إذا اؤتُمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجَر))[8].
ورُوي أن المغيرة بن شُعبة قبل إسلامه قد صحبه قوم، فغدر بهم وقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء))[9]، فقَبِل - صلى الله عليه وسلم - منه إسلامه، ولم يقبل منه الغدر، ولا المال الذي أخذ غدرًا، وفي هذا دَلالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَقبل إلا الحق.
ومن المواقف الدالة على تحلِّي نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - بخلُق الوفاء في أعظم صوره، وعلى تعظيمه له في السِّلم والحرب، ما رواه حذيفة بن اليمان؛ حيث قال: ما منعني أن أشهد بَدرًا إلا أني خرجتُ أنا وأبو حسيل، فأخَذَنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخَذا منا عهد الله وميثاقه لننصرفنَّ إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه الخبر، فقال: ((انصرفا؛ نَفِي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم))[10].
قال النووي في تعليقه على الحديث: "وفيه الوفاء بالعهد... أمَرَهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوفاء، وهذا ليس للإيجاب؛ فإنه لا يجب الوفاء بترك الجهاد مع الإمام ونائبه، ولكن أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يَشيع عن أصحابه نقْض العهد"[11].
ومن مواقف الوفاء أيضًا:
نهيُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتْل أبي البحتري بن هشام؛ حيث قال: ((مَن لقي أبا البحتري بن هشام بن الحارث بن أسد، فلا يقتله))[12]، وإنما نهى عن قتْله وفاءً له وحفظًا للجميل؛ لأنه أكفَّ القوم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة، كان لا يؤذيه ولا يبلُغه عنه شيء يكرهه، وكان ممَّن قام في نقْض الصحيفة[13].
ومما يدل على الوفاء بالعهود أيضًا:
ما وقع في أعقاب صُلح الحديبية، الذي كان من شروطه أن يردَّ المسلمون من جاءهم مَن قريش مسلمًا دون أن يأذن أولياؤه، فلما عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعاهدة مع سُهيل بن عمرو، جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليُعلن إسلامه، "فلما رأى سُهيل أبا جندل، قام إليه فضرب وجهه ثم قال: يا محمد قد لجَّت القضية بين وبينك قبل أن يأتيَك هذا.
قال: ((صدقت))، فقام إليه فأخذ بتلابيبه وصرخ أبو جندل بأعلى صوته: يا معاشر المسلمين، أتردونني إلى أهل الشرك فيَفتنوني في ديني؟!
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا جندل، اصبر واحتسب؛ فإن الله - عز وجل - جاعل لك ولمَن معك من المستضعفين فرَجًا ومَخرجًا، إنا قد عقدْنا بيننا وبين القوم صُلحًا فأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عليه عهدًا، وإنا لن نَغدِر بهم))[14].
ولما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد عقد الصُّلح إلى المدنية جاءه أبو بصير - رجل من قريش - وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلتَ لنا، فخلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين الرجلين، فأمسكاه فخرَجا به حتى إذا بلَغا ذا الحُليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدًا، فاستله الآخَر فقال: أجل والله إنه لجيد، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنَه منه، فضرب به وفرَّ الآخَر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه: ((لقد رأى هذا ذعرًا))، فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قُتِل والله صاحبي، وإني لمقتول".
فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد واللهِ أوفى اللهُ ذمتك، قد ردَدتني إليهم ثم نجاني الله منهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد))، فلما سمع ذلك عرف أنه سيَرده إليهم، فهرب"[15]، فالتزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعهده مع قريش، ولم يقبل أبا بصير في المرَّتَين وخلى بينهم وبينه.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|