الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله، ورضي الله عن الصحابة الراشدين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
الأماثل أهل الفضل والكرم يتجدد اللقاء بكم ومعكم، حول هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المشاكل والخلافات التي وقعت في بيته، وبمشيئة الله تعالى نستكمل في هذا المقال نماذج أخرى، سائلًا الله تعالى أن يكتب لي ولكم الأجر والثواب، وأن يجعل أعمالنا حجةً لنا لا علينا.
إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس:
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها قالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاة، فَأُذِّن، فقال: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد فأعادوا له، فأعاد الثالثة، فقال: «إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» ، فخرج أبو بكر فصلى، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فخرج يهادى بين رجلين[1].
معاني مفردات الحديث [2]:
فأذن: فأذن بضم الهمزة على البناء للمفعول، والمراد به أذان الصلاة.
أسيف: بوزن فعيل وهو بمعنى فاعل من الأسف وهو شدة الحزن والمراد أنه رقيق القلب سريع البكاء، وقال عاصم والأسيف الرقيق الرحيم.
مروا أبا بكر فليصل: بلغوا أبا بكر أني أمرته أن يصلى بالناس.
فأعادوا له: أي من كان في البيت والمخاطب بذلك عائشة؛ لكن جمع لأنهم كانوا في مقام الموافقين.
صواحب يوسف: وصواحب جمع صاحبة والمراد أنهن مثل صواحب يوسف في التظاهر والإغراء، والإلحاح... ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة ومرادها زيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه ومرادها زيادة على ذلك وهو أن لا يتشاءم الناس به.
قال القاضي عياض: " في الحديث: جواز مراجعة الإمام في الأمر يأمر به أولا على غير المناقضة، بل باللطف وحسن القول وإظهار الحجة لخلافه، إذا كان لغرض صحيح، كما فعلت عائشة وحفصة واعتذارهن بأن أبا بكر أسيف، وفيه أن التوبيخ من الإمام أو العقوبة إنما تكون لمن رأى خلافه في هذا إنما تكون إذا كرر عليه ذلك لأول مرة، إذ ظاهره في أول مرة نصيحة وفى الثانية بعد التذكار مكابرة، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما شدد لها في القول بعد التكرار وبعد أن سمع قولها وحجتها فلم يلتفت إليها، فلم يكن بعد لتكرار الكلام عليه معنى، فلما أعاد عليه القول قال: ( إنكن صواحب يوسف)، وهذا ما لم يكن أمرا لازما من تنبيهه على غلط أو خطأ، فإن ذلك لازم تكراره حتى ينتبه له" [3].
الفوائد المنثورة في الحديث [4]:
♦ شدة المرض والوجع وعدم القدرة على المشي من الأعذار التي يجوز معها التخلف عَن صلاة الجماعة.
♦ وجوب الأذان والإقامة في الحضر والسفر، والتهيؤ والتبكير للصلاة عند سماع الأذان، والحض على شهود الجماعات والمحافظة عليها، وتعلق القلب بها.
♦ بيان ما كانت عليه السيدة عائشة من قوة فهمها لمراد النبي صلى الله عليه وسلم (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ففهمت منه التنبيه على الخلافة، وخشيتها أن يتشاءم الناس بأبيها.
♦ بيان أفضلية أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأحقيته بالخلافة، والقيام بأمر الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال عليّ لأبي بكر: (رضيك رسول الله لديننا أفلا نرضاك لدنيانا)[5].
♦ حسن التعريض والملاطفة بالقول من السيدة عائشة مع إقامة الحجة القوية، لتقوى بها دعواها (إن أبا بكر رجل أسيف) سريع الحزن والعبرة والبكاء، وقصدت بذلك أن تقيم العذر لنفسها.
♦ مهابة النبي صلّى الله عليه وسلم، لما عاودته عائشة، ولم يقتنع بقولها، قالت عائشة لحفصة قولي له: ( إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل للناس، ففعلت حفصة)[6]؛ لأن الاتفاق في الرأي والقول أقوى في الحجة وأشد في التأثير، وفيه جواز استخدام الإنسان غيره.
♦ حسن الاستماع من النبي صلى الله عليه وسلم، لنسائه: عائشة وحفصة رضي الله عنهما ولم يقطع عليهما الحديث، دلالة على كمال حسن خلقه، وتأليفه لقلوب نسائه.
♦ مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه على سبيل العرض والمشاورة، دليل على كمال حلمه وكرمه وحسن عشرته مع أهله.
♦ تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفقه بنسائه، وخفض جناحه لهم (وأعاد فأعادوا له).
♦ كره النبي صلى الله عليه وسلم كثرة الإلحاح والمراجعة، من أمهات المؤمنين عائشة وحفصة لما بالغتا في المعاودة إليه، ولو أن الأمر كان يسيرًا ما أغلظ لهما ولا اشتد عليهما.
♦ كرر النبي صلى الله عليه وسلم الكلام (فأعاد الثالثة) لتأكيده، وتعظيمه، والاهتمام به.
♦ الغضب عند مخالفة الأمر النبوي، والإِنكار على أمهات المؤمنين وهن فاضلات تحريضًا لهن على امتثال الأمر.
♦ غضب أم المؤمنين حفصة على أم المؤمنين عائشة، ( قالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا)[7]، وقالت حفصة ذلك لأن كلامها صادف المرة الثالثة من المعاودة وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يراجع بعد ثلاث...؛ لكون عائشة هي التي أمرتها بذلك [8].
♦ بيان أدب أم المؤمنين عائشة في سكوتها عند غضب أم المؤمنين حفصة.
♦ في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكن صواحب يوسف) أراد جنس النساء من شأنهن الإلحاح والمراجعة ويحاولن صرف ذي اللب عن قوله، وهو تشبيه بليغ، وجاء الخطاب بصيغة الجمع باعتبار موافقة الحاضرات لقول عائشة وحفصة.
♦ (فخرج أبو بكر فصلى) أي: أتاه بلال فأخبره بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أبو بكر لعمر رضي الله عنهما صل بالناس فقاله للعذر المذكور وهو أنه رجل رقيق القلب كثير الحزن والبكاء لا يملك عينيه، وقد تأوله بعضهم على أنه قاله تواضعا، والمختار كونه رقيق القلب كثير البكاء [9].
♦ حرص النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الجماعة والتعظيم لها؛ حتى في شدة مرضه لما وجد من نفسه خفة خرج يهادى بين رجلين (فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فخرج يهادى بين رجلين).
ختامًا:
أسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه، موافقة لمرضاته نافعة لعباده، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.