غزوة ذات السلاسل
في مسند أحمد بسند صحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عمرو، اشدد عليك سلاحك وثيابك وَأْتِني))، ففعلت، فجئته وهو يتوضأ، فصعَّد فيَّ البصر وصوَّبه، وقال: ((يا عمرو، إني أريد أن أبعثك وجهًا)) [هي غزوة ذات السلاسل أو السلاسل -جمع سلسلة، وهو في اللغة: الماء السلسال- وكانت سنة 8هـ في العام الذي أسلم فيه عمرو، وقد مضى على إسلامه خمسة أشهر فقط]، فيُسلِّمك الله ويُغنمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة))، قال: قلت: يا رسول الله، إني لم أسلم رغبةً في المال؛ إنما أسلمت رغبةً في الجهاد والكينونة معك، قال: ((يا عمرو، نِعِمَّا بالمال الصالح للرجل الصالح)).
يقول الأستاذ منير الغضبان: لقد تجاوز عمرو الخمسين من عمره، ولم يَعُدْ ذلك الشاب الطموح الهائج لجمع المال، وتكوين الثروة، وتصيُّد المجد، فقد غدا كهلًا وقورًا، فراح قلبه يخفق وهو يسمع هذا التكليف النبوي العظيم، ولا يكاد يجرؤ أن يرفع بصره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياءً منه وهيبةً له؛ لكنه وهو يسمع هذا الأمر المحَبَّب إليه دار بذهنه صورةٌ قاتمةٌ مع هذا الأمر؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم يَعِدُه بالسلامة والغنيمة، ويحب له أن تكون غنيمته وافرة في هذا البعث، ترى هل هان في عين المصطفى صلى الله عليه وسلم فراح يعامله لتأليف قلبه بالمال، وهو قد آمن الإيمان الذي يراه في قلبه يضارع الجبال، والإخلاص لله وحده، والتخلي عن زينة الدنيا من المال والولد، هو ما يربي عليه النبي صلى الله عليه وسلم أحبابه والخلص من أصحابه لديه؟!
كان لا بد أن يزيل هذا القلق الذي ارتسم على وجهه بعد أن نهب قلبه.
قال: "يا رسول الله، إني لم أسلم رغبةً في المال؛ إنما أسلمتُ رغبةً في الجهاد والكينونة معك".
فقد صغرت الدنيا في عينه كلها منذ تلك الصفعة النجاشية في الحبشة له، والتي أعادت تركيبه وصياغته من جديد.
وفي رواية الواقدي: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعًا من بلي وقضاعة قد تجمعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص، فعقد له لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه في سراة المهاجرين والأنصار [نخبتهم وسادتهم]- في ثلاثمائة- وأمره أن يستعين بمن مر به من العرب، وهي بلاد بلي وعذرة وبلقين، وذلك أن عمرو بن العاص كان ذا رحم بهم؛ كانت أم العاص بن وائل بلوية، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بعمرو، فسار وكان يكمن النهار ويسير الليل، وكانت معه ثلاثون فرسًا، فلما دنا من القوم بلغه أن لهم جمعًا كثيرًا، فنزل قريبًا منهم عشاء وهم شاتون، فجمع أصحابه الحطب يريدون أن يصطلوا- وهي أرض باردة– فمنعهم، فشق ذلك عليهم، حتى كلَّمه في ذلك بعض المهاجرين فغالظه، فقال عمرو: أُمرت أن تسمع لي وتطيع، قال: فافعل.
وبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره أن لهم جمعًا كثيرًا، ويستمده بالرجال، فبعث أبا عبيدة بن الجراح، وعقد له لواء، وبعث معه سراة المهاجرين- أبي بكر وعمر رضي الله عنهما- والأنصار، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحق بعمرو بن العاص.
فخرج أبو عبيدة في مائتين، وأمره أن يكونا جميعًا ولا يختلفا، فساروا حتى لحقوا بعمرو بن العاص، فأراد أبو عبيدة أن يؤمَّ الناس، ويتقدم عَمْرًا، فقال له عمرو: إنما قدِمْتَ عليَّ مددًا لي، وليس لك أن تؤمَّني، وأنا الأمير؛ وإنما أرسلك النبي صلى الله عليه وسلم إليَّ مددًا.
فقال المهاجرون: كلا، بل أنت أمير أصحابك، وهو أمير أصحابه، فقال عمرو: لا؛ بل أنتم مددٌ لنا، فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف- وكان حسن الخلق ليِّن الشِّيْمة- قال: لتطمئن يا عمرو، وتعلمنَّ أن آخر ما عهد إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: ((إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا))، وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك، فأطاع أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس.
فآب إلى عمرو جمع - فصاروا خمسمائة - فسار الليل والنهار حتى وطئ بلاد بلي ودَوَّخها، وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه كان بهذا الموضع جمع، فلما سمعوا به تفرقوا، حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلي وعذرة وبلقين، ولقي في آخر ذلك جمعًا ليس بالكثير، فقاتلوا ساعة، وتراموا بالنبل، ورُمي يومئذٍ عامر بن ربيعة بسهم فأصيب ذراعه.
وحمل المسلمون عليهم فهربوا، وأعجزوا هربًا في البلاد وتفرقوا، ودوَّخ عمرو ما هناك، وأقام أيامًا لا يسمع لهم بجمع ولا بمكان صاروا فيه، وكان يبعث أصحاب الخيل، فيأتون بالشاء والنعم، وكانوا ينحرون ويذبحون، لم يكن في ذلك أكثر من ذلك، ولم تكن غنائم تقسم.
وفي رواية الهيثمي: فانطلق المغيرة بن شعبة إلى أبي عبيدة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعملك علينا، وإن ابن فلان قد ارتبع أمر القوم [أي: انتظر أن يؤمر عليهم]، وليس لك معه أمر، فقال أبو عبيدة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتطاوع، فأنا أطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن عصاه عمرو.
وعن ابن بريدة قال: قال عمر لأبي بكر- لما منع عمرو (يعني: ابن العاص) الناسَ أن يوقدوا نارًا-: أما ترى ما يصنع هذا بالناس، يمنعهم منافعهم؟ فقال له أبو بكر: دعه، فإنما ولَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا لعلمه بالحرب.
وإذا كان جيش عمرو فيه خيرة الأنصار على الإطلاق- سعد بن عبادة، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر- وعدد من المهاجرين، فإن مدد عمرو فيه خيرة المهاجرين، وخيرة أهل الأرض على الإطلاق؛ فيه صدِّيْق الأمة وفارُوقُها وأمِينُها: أبو بكر وعمر، وأبو عبيدة، ويكاد يظهر أن مثل هذا الجمع من زعماء الأمة لم يلتقِ أبدًا وبهذه الكثافة تحت راية أحد وقيادته إلا تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزوات التي كان يقودها، وها نحن الآن نجده يمضي مددًا إلى عمرو بن العاص.
أيضًا هنا موقف لافت ورائع من عمرو بن العاص في اختيار رسوله، فرافع بن مكيث جهني وهذه ديار جذام القريبة من ديار جهينة، وطريقهما واحد إلى المدينة، وخبرة رافع في الصحراء وكفاءته الذاتية لا تُبارى؛ ولذلك استطاع أن يذهب ويعود بالمدد بسرعة فائقة.
ثم إن هذا الجيش أظهر أعلى مستويات الانضباط والطاعة، رغم التململ والغضب الشديد، ولم يتشكك أحد في إسلام ولا إيمان عمرو، وهو المسلم ابن الأشهر الخمسة فقط.
وفي رواية ابن حبان: عن قيس بن أبي حازم، عن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في ذات السلاسل، فسأله أصحابه أن يوقدوا نارًا، فمنعهم، فكلموا أبا بكر، فكلَّمه في ذلك، فقال: لا يوقد أحدٌ منهم نارًا إلا قذفته فيها، قال: فلقوا العدو فهزموهم، فأرادوا أن يتبعوهم، فمنعهم، فلما انصرف ذلك الجيش ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم، وشكوه إليه، فقال: يا رسول الله، إني كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارًا فيرى عدوُّهم قِلَّتَهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد، فيعطفوا عليهم، فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، فقال: يا رسول الله، من أحب الناس إليك؟ قال: ((لم؟)) قال: لأحب من تحب، قال: ((عائشة))، قال: من الرجال؟ قال: ((أبو بكر)).
وفي رواية البخاري عن أبي عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: ((عائشة))، قلت: من الرجال؟ قال: ((أبوها))، قلت: ثم من؟ قال: ((عمر))، فعد رجالًا فسكت؛ مخافة أن يجعلني في آخرهم.
فالعبقرية الحربية لا تكفي لتكون الميزان الوحيد في الفضل، والميزان الوحيد في الحب.
وروى أبو داود من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمَّمْتُ، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟!))، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|