تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا..)
قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ [البقرة: 165]
استدل عز وجل في الآية السابقة على تفرده بالألوهية وحده دون سواه بخلق السماوات والأرض وغير ذلك من الآيات العظيمة، ثم ذكر في هذه الآية أن من الناس- مع هذه الآيات العظيمة الواضحة، والبيان التام ﴿ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ﴾، وما هذا إلا محض العناد والشقاق ودليل الإعراض عن تدبر آياته، والتفكر في مخلوقاته، وصدق الله العظيم: ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾ [يونس: 32].
قوله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ﴾ الواو: عاطفة، و"من": تبعيضية، أي: وبعض الناس أو فريق من الناس، و"من" الثانية: موصولة، أي: وبعض الناس الذي يجعل ﴿ و مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ أي: مع الله ﴿ أَنْدَادًا ﴾ جمع ند، وهو الشبيه والنظير.
والمعنى: ومن الناس من يجعل مع الله أشباهاً ونظراء وأمثالاً وآلهة من الأصنام والمعبودات الأحياء والأموات، يسوونهم في الله في العبادة والمحبة والتعظيم والطاعة، كما قال تعالى: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ ﴾ [الأنعام: 100، الرعد: 33].
وهو سبحانه الواحد الأحد، لا ند له ولا شريك.
وفي الحديث أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده"[1].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً، وقد خلقك"[2].
﴿ يُحِبُّونَهُمْ ﴾ صفة لأنداد، أو حال، أي: حال كونهم يحبونهم، أي: يحبون تلك الأنداد ويعظمونها، وجاء الضمير للعاقل ولم يقل: "يحبونها"؛ وذلك لأنهم يعتقدون أنها تنفع وتضر، كما أن من هذه الأنداد التي يعبدونها ما هو من العقلاء، كالملائكة والأولياء والصالحين.
﴿ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾ الكاف للتشبيه بمعنى "مثل" في محل نصب صفة لمصدر محذوف، أي: يحبون أندادهم حباً مثل حب الله، أي: حباً مساوياً لحبهم لله تعالى، وتعظيماً مثل تعظيم الله.
فأثبت لهم محبة لله، ولكنهم يشركون فيها مع الله أندادهم، كما قال المشركون: ﴿ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 97، 98]. فيعدلون بربهم غيره، كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1].
ويحتمل أن المعنى يحبون أندادهم كحب المؤمنين لله.
قال ابن القيم[3]: "وكان شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- يرجح القول الأول، ويقول: إنما ذموا بأن شرَّكوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله، كمحبة المؤمنين له".
فمن أحب من دون الله شيئاً كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذوا من دون الله أنداداً وشركاء وآلهة يحبونهم ويعظمونهم، وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله؛ لأن المحبة والتعظيم هما أساسا العبادة، فبالمحبة يفعل المأمور، وبالتعظيم يجتنب المحظور إذا اجتمعا، فإن انفرد أحدهما استلزم الآخر.
وإنما وجب تقديم محبته عز وجل على كل شيء؛ لأن كل النعم منه سبحانه، خلق الخلق ورزقهم، وأنعم عليهم بسائر النعم التي أعظمها نعمة الإسلام، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ ﴾ [النحل: 53]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [إبراهيم:34، النحل: 18].
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ هذه الجملة اعتراضية بين الجملة السابقة وقوله: ﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾.
و﴿ أَشَدُّ ﴾: اسم تفضيل، ﴿ حُبًّا ﴾ تمييز، واختيار عبارة: ﴿ أَشَدُّ حُبًّا ﴾ بدل "أحب"؛ للدلالة على الرسوخ والثبات وهو ملاك الأمر؛ لأن أحب العمل إلى الله تعالى أدومه، أي: والذين آمنوا أشد حباً لله من محبة المشركين لأندادهم، وذلك لإخلاص المؤمنين محبتهم لله، لا شريك له، في حال السراء والضراء، والشدة والرخاء؛ ولهذا يعبدونه وحده، ويتوكلون عليه، ولا يشركون به غيره في حال من الأحوال.
أما محبة المشركين لأندادهم وآلهتهم فهي في السراء فقط، وعند الضراء يلجؤون إلى الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [العنكبوت: 65].
كما أنهم يقولون: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3]، ويقولون: ﴿ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [يونس: 18].
يحبون الصنم ويعبدونه، ثم يرفضونه إلى غيره، أو يأكلونه كما ذكر أن قبيلة باهلة لهم أصنام من حيس فجاعوا في قحط أصابهم فأكلوها.
ويحتمل أن معنى الآية: والذين آمنوا أشد حباً لله من محبة أهل الأنداد لله، وذلك لأن محبة المؤمنين لله تعالى خالصة لا يشوبها شرك، أما هؤلاء فإنهم يشركون مع الله أندادهم في المحبة.
قال ابن القيم[4]: "والصحيح أن معنى الآية: والذين آمنوا أشد حباً لله من أهل الأنداد لأندادهم، كما تقدم بيان أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلاً، كما لا يماثل محبوبهم غيره، وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته، وكل مكروه في محبة غيره، فهو قرة عين في محبته".
﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ الواو: عاطفة، قرأ نافع وابن عامر ويعقوب بتاء الخطاب: ﴿ وَلَوْ تَرَىَ﴾، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يصلح خطابه، والرؤية على هذا بصرية تنصب مفعولاً واحداً، أي: ولو تبصر يا محمد أو يا أيها المخاطب ﴿ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾، فـ﴿ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ مفعول ﴿ يَرَى ﴾.
وقرأ الباقون بياء الغيبة: ﴿ وَلَوْ يَرَى ﴾، فـ﴿ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ فاعل والرؤية على هذا علمية تنصب مفعولين، سد مسدهما جملة: ﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾.
و﴿ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ هم الذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن ذلك الاتخاذ ظلم، أي: الذين ظلموا باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود، ومحبتها وتعظيمها من دون الله.
وأصل الظلم: النقص، كما قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾ [الكهف: 33]، أي: ولم تنقص منه شيئاً، وهو أيضاً: وضع الشيء في غير موضعه على سبيل العدوان، وأظلم الظلم الشرك بالله، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].
فالذين اتخذوا من دونه أنداداً يحبونهم ويعظمونهم ويعبدونهم من دون الله ظلموا في صرف العبادة لغير الله، ونقصوا ما أوجبه الله عليهم من توحيده، ونقصوا أنفسهم حقها بتعريضها لعذاب الله والخلود في النار وحرمانها من ثوابه ودخول الجنة.
﴿ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ﴾ بدل اشتمال من قوله: ﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾، و﴿ إِذْ ﴾: ظرف للزمان الماضي بمعنى "حين"، وتعلقت هنا بالمضارع للدلالة على تحقيق وقوعه، حتى صار المستقبل كأنه قد مضى، والرؤية هنا بصرية.
قرأ ابن عامر بضم الياء على البناء للمفعول: ﴿ يَرَوْنَ﴾ من "أراه يريه"؛ ولهذا تعدت بالهمزة إلى مفعولين، التقدير: إذ يريهم الله العذاب، فالمفعول الأول الضمير "هم"، والمفعول الثاني: ﴿ الْعَذَابَ ﴾.
وقرأ الباقون بفتح الياء: ﴿ يَرَوْنَ﴾ أي: إذ يرون العذاب بأنفسهم، ومفعول ﴿ يَرَوْنَ﴾ ﴿ الْعَذَابَ ﴾ والمعنى: حين يرون بأنفسهم، أو حين يريهم الله العذاب المعد لهم في الآخرة، أي: حين يبصرون العذاب- وهو العقوبة- عيانا بأبصارهم.
﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ قرأ أبو جعفر ويعقوب "إن القوة" بكسر الهمزة على الاستئناف البياني، وقرأ الباقون بفتح الهمزة ﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾، فالجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي "يرى"، أو على المفعول لأجله، أي: لأن القوة لله جميعاً.
والقوة: التمكن من الفعل بلا ضعف، كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ﴾ [الروم: 54].
كما أن القدرة: التمكن من الفعل بلا عجز، قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44].
﴿ لِلَّهِ ﴾ اللام للاختصاص، ﴿ جَمِيعًا ﴾: حال من الضمير المستتر في الخبر المقدر، أي: حال كون القوة كائنة لله جميعا، فهو- سبحانه وتعالى- المختص بالقوة والقدرة المطلقة الكاملة كلها جميعا، دون ما اتخذوه من الأنداد وغيرها.
﴿ وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ معطوف على ما قبله، أي: أنه عز وجل شديد العقوبة، كما قال تعالى: ﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾ [الفجر: 25، 26].
وجواب "لو" محذوف للتعظيم والتفخيم، ليذهب الفكر فيه كل مذهب، وهو أبلغ في التهديد والوعيد من الإتيان به، كقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ ﴾ [الأنعام: 30]،
وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ﴾ [الأنعام: 93].
وتقديره على قراءة الخطاب: ﴿ وَلَوْ تَرَىَ﴾، أي: لو رأيت ذلك لرأيت أمراً عظيماً، و"أنَّ" في قوله: ﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ ﴾ على هذا: مفعول لأجله، أي: لأجل أن القوة لله جميعاً.
والتقدير على قراءة الغيبة، أي: ولو يعلم الذين ظلموا بشركهم أن القوة لله جميعاً دون أندادهم ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة لرأوا مضرة اتخاذهم الأنداد وعدم نفعها لهم، أو لرأوا أمراً عظيماً لا تحصره الأوهام، أو لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندامة والحسرة، ونحو هذا.
وعلى قراءة كسرة همزة "إنَّ" في قوله: ﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ على الاستئناف جواب "لو" محذوف أيضاً أو على الحكاية، أي: لقالوا: إن القوة لله جميعًا.
المصدر: « عون الرحمن في تفسير القرآن »
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|