من افتقر فليلُذْ بالغني الكريم، ولينخ ركابه مستمنحًا عطايا الوهاب البر الرحيم، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله العظيم فإنك إذا خفته فررت إليه؛ ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ [الذاريات: 50]؛ أي: الجؤوا إليه، واعتمدوا في كل أموركم عليه.
والعبد لا ينفك عن افتقار تام لربه، سواء في حياة قلبه وغذاء روحه بالعلم والإيمان والتسديد والتوفيق، أو في حياة جسده وتحصيل بُلغته من هذه الدنيا التي جعلها الله قيامًا له، حتى إذا وصل لتلك المحلة المنيفة من التعلق والافتقار واللجأ، أغناه ربه بأمداد لطفه؛ فازداد علمه بربه، ويقينه وإيمانه بموعوده، وبارك الله له في عمره؛ قال شيخ الإسلام: "ليس عند القلب أحلى ولا ألذ، ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له، وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله؛ فيصير القلب منيبًا إلى الله، خائفًا منه، راغبًا راهبًا؛ كما قال تعالى: ﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 33]؛ إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه وحصول مرهوبه، فلا يكون عبدًا لله ومحبًّا له إلا بين خوف ورجاء؛ قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾ [الإسراء: 57].
وتأمل - يا عبدالله - حال هذا الإنسان العجيب ومزاجه الغريب في جهله مع عجزه، واستغنائه مع فقره، ورجوعه بعد فراره وكفره؛ قال سبحانه وبحمده: ﴿ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾ [فصلت: 49 - 51].
قال ابن القيم: "وعلى العبد الموفَّق الالتفات إلى ما سبقت به السابقة من الله بمطالعة فضله ومنته وجُودِه، وأن العبد وكل ما فيه من خير فهو محض جود الله وإحسانه، وليس للعبد من ذاته سوى العدم، وذاته وصفاته وإيمانه وأعماله كلها من فضل الله عليه.
فإذا شهِد هذا، وأحضره قلبه، وتحقق به؛ خلَّصه من رؤية أعماله؛ فإنه لا يراها إلا من الله وبالله، وليست منه هو ولا به، فرؤية الأعمال حجاب بين العبد وبين الله، ويخلصه منها شهود السبق، ومطالعةُ الفضل".
وقال شيخ الإسلام مدللًا على حاجة الإنسان التامة، وفقره اللازم الملازم لرحمة ربه وتوليه من تسعة أوجه فطرية عقلية شرعية: "إن العبد، بل كل حي، بل وكل مخلوق، هو فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة، والمضرة هي من جنس الألم والعذاب، فلا بد له من أمرين:
أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع ويلتذ به.
والثاني: هو المُعين المُوصل المحصل لذلك المقصود، والمانع من دفع المكروه؛ وهذان هما الشيئان المنفصلان: الفاعل والغاية؛ فهنا أربعة أشياء: أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
والثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
والثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها، وأما ما ليس بحيٍّ، فالكلام فيه على وجه آخر، إذا تبين ذلك، فبيان ما ذكرته من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعوُّ المطلوب، وهو المعين على المطلوب، وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه؛ فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه؛ وهذا معنى قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]؛ فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يُستعان به على المطلوب، فالأول من معنى الألوهية، والثاني من معنى الربوبية؛ إذ الإله هو الذي يُؤله فيُعبد محبة وإنابة وإجلالًا وإكرامًا، والرب هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها.
وكذلك قوله تعالى: ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88]، وقوله: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ [هود: 123]، وقوله تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ﴾ [الفرقان: 58].
الوجه الثاني: أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له؛ فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به.
وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألُّههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح ولا نعيم ولا لذة بدون ذلك بحال، بل من أعرض عن ذكر ربه، فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى؛ ولهذا كان الله لا يغفر أن يُشرَك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول: لا إله إلا الله رأس الأمر، فأما توحيد الربوبية الذي أقر به الخلق، وقرره أهل الكلام، فلا يكفي وحده، بل هو من الحجة عليهم.
وليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه، إلا الله سبحانه، ومن عَبَدَ غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا، ونوعٌ من اللذة، فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل طعام المسموم: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 22]، فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلهًا حقًّا؛ إذ الله لا سميَّ له ولا مثل له، فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها، هذا من جهة الإلهية، وأما من جهة الربوبية فشيء آخر.
واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئًا، ليس له نظير فيُقاس به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة؛ فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحًا فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.
ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي تنعَّم به والتذَّ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك، وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴾ [الأنعام: 76]، وكانت أعظم آية في القرآن الكريم: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، وقد بسطت الكلام في معنى القيوم في موضع آخر، وبيَّنت أنه الدائم الباقي الذي لا يزول ولا يعدم، ولا يفنى بوجه من الوجوه.
واعلم أن هذا الوجه مبني على أصلين:
أحدهما: على أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه.
الثاني: النعيم في الدار الآخرة أيضًا مثل النظر إليه؛ كما في الدعاء المأثور: ((اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة))، وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ، نادى منادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجِرْنا من النار؟ قال: فيُكشف الحجاب، فينظرون إليه سبحانه، فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه؛ وهو الزيادة))، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة لم يعطهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، وإنما يكون أحب إليهم؛ لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره، فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب، فكلما كان الشيء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم.
روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة لَسُوقًا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالًا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالًا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا)).
قال الله تعالى في حق الكفار: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ﴾ [المطففين: 15، 16]، فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب، ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات، ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه تعالى.
وهذان الأصلان ثابتان في الكتاب والسنة، وعليهما أهل العلم والإيمان".
قال ابن تيمية رحمه الله: "الوجه الثالث: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدًى ولا ضلال، ولا نصر ولا خِذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذي خلقه ورزقه وبصَّره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله.
فمن نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق؛ فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولًا، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولًا حتى يطلبه ويشتاق إليه.
الوجه الرابع: أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإن أحب شيئًا حبًّا تامًّا بحيث يخاللـه، فلا بد أن يسأمه أو يفارقه؛ وفي الأثر المأثور: ((أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تُدان)).
واعلم أن كل من أحب شيئًا لغير الله، فلا بد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سببًا لعذابه؛ ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله يمثُلُ لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرعَ يأخذ بلَهْزَمَتِهِ - أي: شدقيه - يقول: أنا كنزك، أنا مالك؛ [رواه البخاري]، فمن أحب شيئًا لغير الله، فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد، فإن فقد عُذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة.
وكل من أحب شيئًا دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته، فصارت المخلوقات وبالًا عليه إلا ما كان لله وفي الله، فإنه كمال وجمال للعبد؛ وهذا معنى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه))؛ [رواه الترمذي وغيره].
الوجه الخامس: أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته؛ فإنه يُخذل من تلك الجهة، وهو أيضًا معلوم بالاعتبار والاستقراء، فما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خُذل؛ وقد قال الله تعالى: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ﴾ [مريم: 81، 82]، وهذان الوجهان في المخلوقات نظير العبادة والاستعانة في المخلوق؛ فلما قال: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، كان صلاح العبد في عبادة الله واستعانته، وكان في عبادة ما سواه والاستعانة بما سواه مضرته وهلاكه وفساده.
الوجه السادس: أن الله سبحانه غني حميد كريم واجد رحيم، فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غِناه عنه، يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحسانًا، والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه، ويجلبوا له منفعة، ويدفعوا عنه مضرة ما، وإن كان ذلك أيضًا من تيسير الله تعالى، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله.
إذا تبين هذا، ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول؛ بل إنما يقصد منفعته بك، فإذا دعوته فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه، والرب سبحانه يريد لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وذلك منفعة عليك بلا مضرة، فتدبر هذا، فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك؛ فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه.
ولا يحملنَّك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسِن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تخفْهم فلا ترجُهم، وخفِ الله في الناس ولا تخفِ الناس في الله، وارجُ الله في الناس، ولا ترجُ الناس في الله، وكن ممن قال الله فيه: ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ﴾ [الليل: 17 - 20]، وقال فيه: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 9].
الوجه السابع: أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك، وإن كان ذلك ضررًا عليك، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها.
الوجه الثامن: أنه إذا أصابك مضرة كالخوف والجوع والمرض، فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله، ولا يقصدون دفعها إلا لغرض لهم في ذلك.
الوجه التاسع: أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك، لم ينفعوك إلا بأمرٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك؛ فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تعلق بهم رجاءك؛ قال الله تعالى: ﴿ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ﴾ [الملك: 20، 21]، والنصر يتضمن دفع الضرر، والرزق يتضمن حصول المنفعة؛ قال الله تعالى: ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 3، 4]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل تُرزقون وتُنصرون إلا بضعفائكم))؛ [رواه البخاري]؛ بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم.
جماع هذا أنك أنت إذا كنت غير عالم بمصلحتك، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغي؛ فغيرك من الناس أولى ألَّا يكون عالمًا بمصلحتك، ولا قادرًا عليها، ولا مريدًا لها، والله سبحانه هو الذي يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله العظيم؛ كما في حديث الاستخارة: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب))؛ [رواه البخاري].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
إبراهيم الدميجي