شرح حديث: إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة
♦ عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: فُلاَنٌ شَهِيدٌ. فُلاَنٌ شَهِيدٌ. حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا: فُلاَنٌ شَهِيدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و سلم: «كَلاَّ. إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ. فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا. أَوْ عَبَاءَةٍ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و سلم: «يا ابْنَ الْخَطَّابِ! اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ» قَالَ: فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ: «أَلاَ إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ». رواه مسلم.
♦ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم إِلى خَيْبَرَ. فَفَتَحَ الله عَلَيْنَا. فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبا وَلاَ وَرِقا. غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطَّعَامَ وَالثِّيَابَ. ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الْوَادِي. وَمَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و سلم عَبْدٌ لَهُ، وَهَبَهُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُذَامٍ. يُدْعَى رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ مِنْ بَنِي الضُّبيْبِ. فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِيَ قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و سلم يَحُلُّ رَحْلَهُ فَرُمِيَ بِسَهْمٍ. فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ. فَقُلْنَا: هَنِيئا لَهُ الشَّهَادَةُ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و سلم: «كَلاَّ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارا. أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ. لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ» قَالَ فَفَزِعَ النَّاسُ. فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و سلم: «شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ».
ترجمة راويي الحديثين:
عمر بن الخطاب وأبو هريرة - رضي الله عنهما - تقدمت ترجمتهما في الحديث الأول من كتاب الإيمان.
تخريج الحديثين:
حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أخرجه مسلم حديث (114)، وانفرد به عن البخاري، وأخرجه الترمذي مختصراً في "كتاب السير" "باب ما جاء في الغلول" حديث (1574).
وأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فأخرجه مسلم حديث (115)، وأخرجه البخاري في "كتاب المغازي" "باب غزوة خيبر" حديث (4234)، وأخرجه أبو داود في "كتاب الجهاد" "باب تعظيم الغلول" حديث (2711).
شرح ألفاظ الحديثين:
• (لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ): كان ذلك في محرم سنة 7 للهجرة.
• (أَقْبَلَ نَفَرٌ): النفر عدة رجال من الثلاثة إلى التسعة.
• (فَقَالُوا: فُلاَنٌ شَهِيدٌ. فُلاَنٌ شَهِيدٌ): النفر سموا رجالا حكموا عليهم بالشهادة، لكن عمر -رضي الله عنه -جاء بلفظ (فلان) كناية عن الاسم الصريح، ومقصودهم بشهيد أي قتلوا فيحكم لهم بدخول الجنة من أول وهلة.
• (حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ): أي حتى جاؤوا أثناء عدهم على اسم رجل فقالوا عنه شهيد.
• (فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و سلم: كَلاَّ): حرف ردع وزجر أي ليس بشهيد.
• (إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ): رؤيا منام، ورؤيا الأنبياء حق، أو بمعنى الرؤية وهي العلم أي علمت أنه من أهل النار بطريق الوحي.
• (فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا. أَوْ عَبَاءَةٍ): رأيته في النار بسبب البردة أو العباءة التي غلَّها، والبردة نوع من أنواع الأكسية مخطط، والغلول: هو الخيانة في الغنيمة، وذلك بأخذ شيء منها قبل أن تقسم فيختصه لنفسه دون أحد، ولذا سميت غلولا لأن صاحبها يغله في متاعه أي يخفيه.
• (خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم): لا خلاف في أن أبا هريرة راوي الحديث. لم يشهد خيبراً وإنما جاء بعد فتح خيبر وشهد غنائمها لا فتحها، فقد روى أحمد وابن خزيمة قال أبو هريرة: "حتى أتينا خيبر وقد افتتحها النبي صلى الله عليه وسلم فكلم المسلمين فأشركونا في سهامهم"، والجواب عن لفظ الحديث إما وهم من الراوي أو أنه يحكي خروج المسلمين قبله، وجاء بهذا اللفظ باعتباره من المسلمين لاسيما وقد أخذ معهم من الغنائم.
• (فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبا وَلاَ وَرِقا): الورق بفتح الواو وكسر الراء وهي الدراهم المضروبة، والورق هي الفضة، وفي رواية البخاري: "فلم نغنم ذهبا ولا فضة".
• (غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطَّعَامَ وَالثِّيَابَ): في رواية البخاري: "إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط".
• (ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الْوَادِي): جاء في رواية البخاري اسم هذا الوادي فقال: "إلى وادي القُرى" وهو موضع قريب من المدينة.
• (قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و سلم): اسمه (مِدْعم) بكسر الميم وإسكان الدال وفتح العين كما في رواية البخاري.
• (فَرُمِيَ بِسَهْمٍ): جاء في رواية البخاري: "إذ جاءه سهم عائر حتى أصاب ذلك العبد" وعائر أي لا يدرى من رمى به، وجاء في رواية البيهقي بيان الجهة التي انطلق منها هذا السهم ففيها: "وقد استقبلنا يهود بالرمي ولم نكن على تعبئة".
• (فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ): بفتح الحاء وإسكان التاء أي موته، وجمعه حتوف، وقولهم: مات حتف أنفه أي من غير قتل ولا ضرب.
• (إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارا): الشملة نوع من الأكسية صغير يؤتزر به، يحتمل أن يكون ذلك حقيقة بأن تصير الشملة نفسها ناراً تحيط به، فيعذب بها، ويحتمل أن يكون المراد أنها سبب لعذاب النار، وكذا يقال في الشراك بالاحتمالين السابقين.
• (بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ): بكسر الشين وتخفيف الراء وهو سير النعل الذي على ظهر القدم.
من فوائد الحديثين:
الفائدة الأولى: الحديثان دليلان على عظم تحريم الغلول، ويؤخذ من الحديثين فيما يخص الغلول عدة أحكام:
• أولاها: أن الغلول كبيرة من كبائر الذنوب، وهذا يؤخذ من الحديثين بتعذيب من غلَّ في النار، وأيضا لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ ونقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر. [انظر شرح النووي للحديثين (115،114)] فدلالة كون الغلول من الكبائر الكتاب والسنة والإجماع.
• ثانيها: أن الغلول سبب من أسباب التعذيب بالنار للاستدلال السابق.
• ثالثها: أن الغلول مانع من موانع الشهادة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديثين حينما أطلق الصحابة الشهادة على من غلَّ قال (كلاَّ)، وإن كان في الدنيا يعامل معاملة الشهيد فلا يغسل ولا يصلى عليه، وذكر النووي أن الشهداء على ثلاثة أقسام:
الأول: المقتول في حرب الكفار فهذا له حكم الشهداء في الدنيا ومنازل الشهداء في الآخرة.
الثاني: شهداء في الثواب دون أحكام الدنيا، وهم المبطون والمطعون وصاحب الهدم، ومن قتل دون ماله وغيرهم مما جاءت ببيانهم الأحاديث الصحيحة بأنهم شهداء وهؤلاء ليس لهم حكم الشهيد في الدنيا فيغسلون ويصلى عليهم كسائر الأموات، وأما في الآخرة ففي منازل الشهداء لكنهم دون القسم الأول.
الثالث: من غلَّ من الغنيمة وقتل في حرب الكفار فهؤلاء تجرى عليهم أحكام الشهيد في الدنيا فلا يغسلون ولا يصلى عليهم، وأما في الآخرة فثوابهم ليس بكامل لورود التعذيب لهم بما غلوه.
قال النووي: "من غلَّ في الغنيمة وشبهه ممن وردت الآثار بنفي تسميته شهيدا إذا قتل في حرب الكفار، فهذا له حكم الشهداء في الدنيا، فلا يغسل ولا يصلى عليه، وليس له ثوابهم الكامل في الآخرة".
رابعها: أن الغلول كله محرم كثيره وقليله لقول النبي صلى الله عليه وسلم (شراك من نار) وهذا شيء يسير.
خامسها: أن من غلَّ شيئا يجب عليه ردّه وأنه إذا ردّه يقبل منه كما رد صاحب الشراك الشراك الذي غلَّه، وأن الغلول بعد ردّه لا يُحرَّق لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرقه.
وذهب بعض العلماء إلى تحريقه استدلالا بحديث ضعيف، قال النووي: "وأما الحديث" من غلَّ فأحرقوا متاعه واضربوه" وفي رواية "واضربوا عنقه" فضعيف بيَّن ابن عبد البر وغيره ضعفه".[انظر شرح النووي للحديثين].
الفائدة الثانية: قوله "فلان شهيد، فلان شهيد" استدل به من قال بجواز إطلاق لفظ الشهيد على من مات في المعركة ضد الكفار، وفي المسألة خلاف هل يشهد لشخص بعينه أنه شهيد؟
القول الأول: أنه لا يجوز أن نشهد لشخص بعينه أنه شهيد، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اتفقت الأمة على الشهادة له بذلك.
واختار هذا القول الإمام البخاري في صحيحه قال: "باب لا يقول فلان شهيد" وأدرج تحته حديث سهل بن سعد المتقدم، ورجحه شيخنا ابن عثيمين-رحمه الله- في كتابه [المناهي اللفظية (ص 80،78)]، وهو رأي العلامة الألباني [في أحكام الجنائز (ص 59)].
واستدلوا:
1- بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفس محمد بيده لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ - إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ " متفق عليه، وبوَّب البخاري على هذا الحديث بنفس الباب السابق.
ووجه الدلالة: أن قوله " وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ " أي بمن يجرح في سبيله ظاهر في أننا لا نجزم لأحد بأنه قتل في سبيل الله حتى نحكم عليه بالشهادة، فقد يكون قتال حمية أو رياء أو شجاعة.
2- حديث سهل بن سعد السابق وفيه قصة الرجل الذي لم يدع شاذة ولا فاذة إلا ضربها بسيفه ومع ذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم -:" أما إنه من أهل النار" والحديث متفق عليه.
3- حديث خارجة بن زيد بن ثابت في قصة موت عثمان بن مظعون وفيه قالت أم العلاء: "رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك، لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" وما يدريك أن الله أكرمه؟" قالت قلت: لا أدري، بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن؟ قال:" أما هو فقد جاءه والله اليقين، والله إني لأرجو له الخير، وما أدري والله وأنا رسول الله ما يفعل بي؟" قالت: فوالله لا أزكي أحدا بعده..." الحديث رواه البخاري.
4- قالوا لو شهدنا لأحد بعينه أنه شهيد لزم من تلك الشهادة أن نشهد له بالجنة، وهذا خلاف ما عليه عقيدة أهل السنة أنهم لا يشهدون لأحد بعينه بجنة أو نار إلا من جاءت به النصوص.
وهناك أدلة أخرى وما تقدم أهمها.
القول الثاني: جواز تسمية من جاء بأي سبب من أسباب الشهادة بالشهيد وهذا في الظاهر ونكل سريرته إلى الله تعالى.
ومال لهذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ ابن باز-عليهم رحمة الله-.
واستدلوا:
1- بحديث أنس بن مالك قال: "لما طُعن حرام بن ملحان، وكان خاله، يوم بئر معونة قال بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه ثم قال: "فزت ورب الكعبة" رواه البخاري، والمقصود فزت بالشهادة، وهذه شهادة منه لنفسه ولم ينكرها النبي صلى الله عليه وسلم.
2- حديث عمر بن الخطاب في الباب وفيه أنهم كانوا يقولون (فلان شهيد فلان شهيد) ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتوا على الغالِّ من الغنيمة وقالوا فلان شهيد فأنكر عليهم ولم ينكر ما سبق.
3- ما تواتر عن الصحابة ومن جاء بعدهم من علماء الإسلام، من إطلاق الشهادة على المعين كقولهم: "قتل فلان شهيدا، وختم له بالشهادة، ورزق الشهادة، واستشهد..." وهذا يدل على الجواز.
وأما تبويب البخاري "باب لا يقول فلان شهيد" فالمقصود لا يقال ذلك على سبيل القطع والجزم بأنه سينال مرتبة الشهداء في الآخرة.
قال ابن حجر معلقاً على تبويب البخاري: "أي على سبيل القطع... وإن كان مع ذلك يُعطى حكم الشهداء في الأحكام الظاهرة، ولذلك أطبق السلف على تسمية المقتولين في بدر وأحد وغيرهما شهداء، والمراد الحكم الظاهر المبني على الظن الغالب والله أعلم". [الفتح "كتاب الجهاد والسير" "باب لا يقول فلان شهيد" حديث (2898)].
ونقل الشيخ بكر أبو زيد عن الطاهر بن عاشور تعليقا على تبويب البخاري فقال: "هذا تبويب غريب فإن إطلاق اسم الشهيد على المسلم المقتول في الجهاد ثابت شرعا ومطروق على ألسنة السلف فمن بعدهم". [معجم المناهي اللفظية (ص 320)].
وهذا القول هو الأظهر والله أعلم وأنه لا بأس بإطلاق لفظ الشهيد على من جاء بسبب من أسباب الشهادة كالقتل في حرب الكفار والمطعون والمبطون وصاحب الهدم ونحوهم مما جاءت به النصوص، وأما السرائر فنكلها إلى الله تعالى فلا نجزم بها وبمآلها في الآخرة، ولعل هذا مراد البخاري بنفيه قول فلان شهيد أي على سبيل الجزم كما ذكر ابن حجر.
الفائدة الثالثة: حديث أبي هريرة دليل على جواز الحلف من غير استحلاف عند الحاجة، وجواز هبة العبد، ونسبته إلى فلان فيقال عبد فلان كما في الحديث عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الإيمان)
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|