أتشتكي الله لعبيده؟!
لقد خلق الله حياة الإنسان منظومةً من المحن (الاختبارات)، وهذه المحن عديدة ومتشابكة يؤثر بعضها في بعض، فما تكاد تمر محنةٌ إلا وتأتي غيرها من المحن، فحياة الإنسان سلسلة متواصلة من المحن حتى يلقى الله.
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4].
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6].
فنحن نواجه في حياتنا العديد من المشاكل والمواقف التي تجعلنا حيارى، لا نعرف كيف نتعامل معها، والمشاكل أكثرُ ما يقلق ويوتر الأشخاص، وبتراكمها بعضها فوق بعض دون وجود الحلول لهذه المشكلات قد يزيد من تفاقمها، والهروب من مواجهتها يعتبر بحد ذاته مشكلة؛ لأنه قد يوقعك في دوَّامة كبيرة لا تعرف كيف تتعامل معها ولا تعرف كيف تنقذ نفسك، فتدخل في دوامة الشيطان.
قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [آل عمران: 186]، وقال أيضًا: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]، وقال کذلك: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 1، 2].
إذًا ليس للامتحانات والابتلاءات الإلهية إطار محدد ومعين، بل إن كل شخص يُبتلَی ويُمتحن تبعًا لحالاته النفسية والعاطفية والروحية، ولهذا قال عز وجل في آية أخرى أيضًا: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].
والإنسان مطالَب بأن يتعامل مع هذه المحن بمنهج الله، وليس بهوى نفسه أو وحي الشياطين.
ولكن الكثير من الناس لا يفقَهون ذلك، كما أن مناهج التربية في مراحلها المختلفة، ومؤسسات الدعوة ووسائل التربية والإعلام لا يقومون بدورهم المنوط بهم في توضيح سنن الابتلاء والهدف منها، وكيفية التعامل معها عبادة لله.
وللأسف الشديد يلجأ الكثير من الناس في زماننا هذا بالمبالغة في شكوى همومهم وفي حساسيتهم التي زادت عن المعقول، حتى إنك بمجرد أن تفاتح بعض الناس في أي حديث، يبدأ في الحديث عن همومه وشكواه، حتى تتحول الجلسة إلى "مندبة"، ويصل المشهد للكآبة التي تغلق القلوب، ومن هذه السلوكيات السلبية، كثرة الشكوى، فمنْ مِنَّا لا يشتكي؟ الزوج يشتكي والزوجة تشتكي، الوالد يشتكي والوالدة تشتكي، رب العمل يشتكي والعامل يشتكي، الغني يشتكي والفقير يشتكي، لا بل ذوو الأرحام، حتى الجيران، يشتكي بعضهم بعضًا، ومعظم هذه الشكاوى تدور حول المنفعة الذاتية الآنية بكافة جوانبها، ليطرح السؤال نفسه هنا وبقوة: وهل يملك بعضنا لبعض ضرًّا أو نفعًا، عطاء أو منعًا؟ والله عز وجل يقول: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ﴾ [الزخرف: 32].
فأصبح الكثيرون من الناس يصرون على أن تكون الشكوى طريقة حياة عندهم، وتتحول الشكوى جزءًا من شخصياتهم وتكون عقدة تكبُر بداخل الإنسان، وهذا مدخل عمل الشيطان؛ ليحطم الإنسان من داخله، ويصرفه عن المهمة التي خلقه الله من أجلها ومنها سنة الابتلاء.
إن كثرة الشكوى والتعوُّد عليها تؤدي إلى القنوط واليأس من نعمة الله، واليأس قرين الكفر.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11].
ومن هنا يُخشَى على الشخص المتذمِّر وكثير الشكوى أن يكون معترضًا على ما قسم الله سبحانه وتعالى له من رزق ونِعَمٍ في الحياة، وهذا ضَربٌ من عدم الرضا.
وللأسف نرى البعض ممن هم ضعيفو الإيمان يشكون للخَلْقِ وينسَون الخالق، ويتعلقون بما لا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا؛ فإن التعلق بالمخلوقين شركٌ؛ بدليل قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس: 106 - 109].
هل فكرت قبل أن تلجأ إلى الناس وتستغيث بهم أن تلجأ إلى الرحمن الرحيم؟
قيل: إن البلاء يستخرج الدعاء؛ بمعنى: إن الإنسان قد لا يذكر الله ولا يدعوه، فإذا نزل به البلاء، استخرج الدعاء، وبدأ الإنسان بالدعاء والتضرع إلى الله.
فالله عز وجل قد يبتلي العبد وهو يحبه؛ ليسمع تضرعه ودعاءه، فهمومك ومشاكلك بينك وبين الله؛ فهو القادر على تفريجها.
على المؤمن أن يشكو إلى الله وحده، والمؤمن الحق من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].
﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 79].
فمراتب الشكوى ثلاثة: أخسُّها أن تشكو الله إلى خلقه، وأعلاها أن تشكو نفسك إليه، وأوسطها أن تشكو خلقه إليه.
إن الله عز وجل أمر العبدَ بالصبر، وضرب مثالًا بقصة نبيه يعقوب عليه السلام الذي قال: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ [يوسف: 83]، ووجه شكواه لربه وقال: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [يوسف: 86].
وقال تعالى في شأن خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [المجادلة: 1].
فالشكوى لغير الله اعتراضٌ على مقادير الله، ومحاولة تحريف بشريٍّ لِما جاء في اللوح المحفوظ؛ فالإسلام يوجهنا إلى ضرورة الاستعانة بالله وحده عند الشدة، لا المسارعة إلى الشكوى والتشكي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن نَزَلتْ به فَاقةٌ، فأَنَزَلَها بالنَّاسِ، لَم تُسدَّ فاقتُه، ومَن نَزلَتْ به فاقةً، فأنزلَها باللهِ، فيُوشِكُ اللهُ له برزقٍ عاجلٍ، أو آجلٍ))؛ [رواه أحمد].
إن مشكلة التشكي والتوجع التي أصبحت عادة قبيحة يمارسها الكثيرون تحتاج إلى معالجة إيمانية تربوية حكيمة.
يُروى ((أن رجلًا كان يأتي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي ثم ينصرف مسرعًا، ولا يمكث بالمسجد ولو قليلًا، فتعجب الصحابة منه، وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه بأمره، وحين سأله النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، لا أملك إلا ثوبي هذا أحضُر به إلى المسجد، فأدرك الصلاة معك، وأنصرف مسرعًا فأخلع هذا الثوب وأعطيه لامرأتي تلبَسه لتدرك الصلاة في وقتها، فرقَّ النبي صلى الله عليه وسلم لحاله، وخلع رداءه وأعطاه إياه، فأخذه الرجل وذهب إلى منزله فرِحًا مسرورًا، وأعطى امرأته ثوبه، وأخبرها بما حدث، فتعجبت وقالت: ويحك يا رجل، أتشتكي الله لرسول الله؟!)).
هل توجد مثل هذه الآن؟!
أين هذا الرصيد الضخم من الإيمان القوي والنبع الفيَّاض من الخُلُقِ النبيل؟!
شبكة الالوكة