أحداث ما قبل فتح مكة (1)
1- الاستعداد للغزو واستنفار المسلمين لذلك:
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتجهز للغزو، وأمر أهله بتجهيزه، ولم يعلمهم بالجهة التي يقصدها، حرصا منه صلى الله عليه وسلم على كتمان الأمر، حتى تنقطع الأخبار عن قريش، فلا تأخذ أهبتها للقتال، وتعجز عن مقاومة الجيش الإسلامي، فتستسلم له دون إراقة دماء أو حدوث قتال، قال ابن اسحق رحمه الله: (وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر رضي الله عنه على ابنته عائشة - رضي الله عنها - وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بنية، أأمركم رسول الله أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز. قال: فأين تُرَينه يريد؟ قالت: والله ما أدري[1].
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال( اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش، حتى نبغتها في بلادها))[2].
وأخفى النبي صلى الله عليه وسلم أمره وأخذ بالأنقاب[3]، واستنفر القبائل الموجودة حول المدينة، وأكثرهم أسلم وغفار ومُزينة وجهينة وأشجع وسُليم، فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق إلى مكة، وتجهز المهاجرون والأنصار فلم يتخلف منهم أحد[4].
2-إرسال سرية تمويهية للإخفاء والتعمية:
أراد النبي صلى الله عليه وسلم التمويه على قريش وحلفائها، وتحويل انتباههم عن نيته لغزوهم، فأرسل سرية بقيادة أبي قتادة بن ربعي رضي الله عنه إلى بطن أِضَم[5]، ليظن من يراها أن النبي صلى الله عليه وسلم متوجه إلى تلك الناحية، وتذهب الأخبار بذلك إلى مكة، فيتحول انتباه قريش وحلفائها عن خطته لغزوها، ويأمنوا جانبه، ويتمكن للمسلمين السيطرة عليهم دون تهيؤ منهم أو مقاومة.
ولما وصلت السرية إلى حيث أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغهم خبر مسير الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة فسارت إليه ولحقته وهو بالسقْيا[6][7].
3- محاولة تسريب خبر الغزو لقريش:
حاول حاطب بن أبي بلتعة[8] رضي الله عنه، وهو من البدريين ومن السابقين الأولين في الإسلام - أن ينقل إلى قريش خبر عزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم، وأرسله مع إحدى نساء المشركين، وقد فعل ذلك رضي الله عنه ليتخذ عند قريش يدًا تدفعهم إلى حفظ وحماية أهله وولده المقيمين بينهم، ولم يكن له بمكة عشيرة تحميهم، فأعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بما صنع، فبعث صلى الله عليه وسلم في طلب المرأة وأخذ الكتاب منها.
وقد روى الحادثة الإمام البخاري رحمه الله فقالقال علي رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير[9] والمقداد، فقال(انطلقوا حتى تأتوا رَوْضة خاخ[10] فإن بها ظعينة[11] معها كتاب، فخذوه منها)). قال: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتُخرجِنّ الكتاب أو لنلقِيَنَّ الثياب، قال: فأخرجته من عُقاصِها[12]، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا حاطب ما هذا؟)) قال: يا رسول الله، لا تعجل علي، إني كنت امرأً ملصقًا في قريش-يقول كنت حليفا ولم أكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين، لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه قد صدقكم))، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: ((إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله اطَّلع على من شهد بدرًا، قال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم))[13].
وقد عفا الله تعالى عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم لمكانته في الإسلام وفضله، وصدق محبته لله ورسوله، وعذره النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه ولم يعنفه، وأنزل الله في شأنه قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [الممتحنة: 1] [14].
واستمر المسلمون في الجهاز متكتمين على ذلك، حتى أتمُّوا استعدادهم وتأهبوا للمسير.
4- خروج الجيش من المدينة:
بعد أن أكمل النبي صلى الله عليه وسلم جميع التجهيزات واجتمع شمل الجيش الإسلامي الذي بلغ تعداده عشرة آلاف [15]مقاتل، خرج صلى الله عليه وسلم بهذا الجيش الكثيف من المدينة لإقامة فريضة الجهاد وللاقتصاص من أعداء الله الناكثين للعهد، وكان ذلك في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وقد روى الإمام البخاري رحمه الله عن ابن عباس[16] رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان من المدينة، ومعه عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار هو ومن معه من المسلمين إلى مكة، يصوم ويصومون، حتى بلغ الكَدِيد[17]-وهو ماء بين عُسْفان[18] وقُدَيد[19]- أفطر وأفطروا)[20].
وأمرهم صلى الله عليه وسلم بالفطر ليتقووا على مواجهة عدوهم، فقد روى الإمام مسلم رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عُسْفان، ثم دعا بإناء فيه شراب فشربه نهارا حتى يراه الناس، ثم أفطر حتى دخل مكة)[21].
وكان خروجه الذي اتفق عليه أهل السير في العاشر من رمضان، ودخوله مكة لتسع عشرة ليلة خلت منه[22]، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري[23] رضي الله عنه [24].
5- السير نحو مكة:
أعطت خطة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتمان ثمارها، فقد مضى الجيش الإسلامي نحو مكة، والمشركون غير عالمين به، لكنهم كانوا مترقبين وجلين وقد خافوا عاقبة غدرهم بالمسلمين وتوقعوا زحفهم عليهم.
وانضم للجيش من كان قد تأخر من القبائل[25]، وانتظم عقد الجيش، وقام النبي صلى الله عليه وسلم بعقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل[26].
وقد كان من بني سليم سبعمائة وقيل ألف، ومن بني غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد[27].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|