للفوز والنّجاح حلاوته، وللخسارة والإخفاق مرارته، وكما أنّ الإنسان يحسّ حلاوة المطعوم أو المشروب ومرارته، فإنّ القلب يحسّ حلاوة النّجاح ومرارة الإخفاق، ويتأثّر بها أكثر مِن تأثّر اللّسان بما يطعم.
أليس الطّالب إذا نجح في دراسته، والموظّف إذا أبدع في وظيفته، والتّاجر إذا ربح في تجارته، يحسّون اللّذة في كلّ شيءٍ! ويجدون الحلاوة في كلّ مطعومٍ؟ وإذا أخفقوا وجدوا كلّ شيءٍ مرًّا؛ مهما كان طيّبًا حلوًا؟! وتلك حقيقةٌ يعرفها كلّ النّاس، وأكثرهم ذاق حُلوها ومرّها، حينما كانوا ينجحون تارةً ويخفقون تارةً أخرى، وإنّكم في هذه الأيّام ترون الأيدي على القلوب، والقلق باديًا على الوجوه -مِن نتائج الامتحان وثمرات السّؤال والجواب- بعد تحصيل عامٍ كاملٍ مِن الدَّرس والتّعب، حيث كان حرص الآباء والأمّهات أكثر مِن حرص الأبناء، ووجلهم أشدّ، إذ يرون ثمرات أفئدتهم يرسمون جزءًا مِن مستقبلهم، ويُقدمون على منافسة أقرانهم، وودّ الآباء لو كان الجِدُّ يُشترى بمالٍ إذًا لاشتروه بغالي الأثمان لأولادهم، وما أكثر الوصايا والتّوجيهات والإرشادات مِن الآباء والأمّهات لأولادهم في هذه الأيّام، وكأنّ النّاس في حربٍ لا بدّ فيها مِن رابحٍ وخاسرٍ، وقاتلٍ ومقتولٍ، ثمّ بعد ذلك ستظهر النّتائج للعيان، فيفرح مَن يفرح، ويندم مَن يندم، ولات حين مندم.
إنّها صورةٌ مصغّرةٌ لعمل الإنسان في الدّنيا، ثمّ اختباره في الحساب، ثمّ فوزه وفرحه، أو خسارته وندمه، ولكنّه فوزٌ وفرحٌ مستمرٌّ، أو خسارةٌ وندمٌ غير منقطعٍ، فهل عمل العاملون لذلك؟ وتنافسوا في أسباب النّجاة والنّجاح؟ وهل يهتمّون له كما يهتمّون هذه الأيّام؟
1- شتَّان بين امتحانٍ وامتحانٍ
إنّ هذه الدّنيا الّتي نعيشها امتحانٌ عظيمٌ وابتلاءٌ كبيرٌ، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7].
فلئن كانت قاعات المدارس مواقع للامتحانات، فإنّ موقع امتحاناتنا الحياة كلّها، وإذا كانت امتحانات الطّلبة مؤقّتةٌ ومعلومةٌ، فإنّ امتحاننا مؤقّتٌ بأجلٍ مجهولٍ لنا، ولن نُعطى زيادةً في الوقت لنتدارك ما فاتنا، قال سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].
ولئن كان هناك -ربّما-في امتحانات الدّنيا فرصةٌ للغشّ والخداع، فإنّ هذا كلّه مستحيلٌ هناك، فأعمالك مسجّلةٌ لك أو عليك، وهكذا تتفاوت الامتحانات في شدّتها، ولكنّ امتحانات الدّنيا مهما عظمت فإنّها أسهل وأيسر مِن المسؤوليّة والاختبار بين يدي ملك الملوك، قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92-93].
ولقد بيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم طبيعة هذه الأسئلة وحدّدها، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ). [ 1 ]
فَسَتَقرأ كتابك عند ربّك جل جلاله، {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14].
إنّه كتابٌ سُجّلت عليك فيه كلّ ما فعلتَه خلال حياتك، قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49].
إنّه يوم الامتحان الأكبر الّذي يسود فيه العدل المطلق التّامّ، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47].
ففي ذلك اليوم تُوفّى النّفوس ما عملت، ويحصد الزّارعون ما زرعوا، فما أشبه اليوم بغدٍ، يوم السّؤال عن الصّغير والكبير، والحقير والجليل، فهو امتحانٌ مهولٌ شديدٌ لكل الخلق، عَنِ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ، فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، قَالَ فَذَاكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا، وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ). [ 2 ]
فلنتذكّرْ في هذه الامتحانات -لأبنائنا وترقّبنا لنتائجها- أعظم محنةٍ ستمرّ علينا، في يومٍ يقول فيه الرّسل: نفسي نفسي، ولن تكون هناك أدوار إعادةٍ، بل إنّها امتحاناتٌ واحدةٌ، ونتائج محسومةٌ.
2- فرحة النَّجاح وخيبة الرَّسوب
إنّ النّجاح في الحياة الدّنيا هدفٌ مشروعٌ لكلّ فردٍ، لكنّ المؤكَّد أنّ النّاس يتفاوتون في هذا النّجاح بين مُقلٍّ ومُكثرٍ، وبين مهتمٍّ ومفرّطٍ، وبين متوكّلٍ ومتواكلٍ، كلٌّ بحسب توفيق الله عز وجل له، ثمّ حجم ما يبذل مِن الأسباب، وما يقدّم مِن العطاء في سبيل تحقيق أيّ نجاحٍ مؤمّلٍ، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [اللّيل: 5-7].
وما مِن نجاحٍ يتحقّق إلّا ووراءه نجاحٌ أكبر وفوزٌ أعظم، وإنّ أعظم نجاحٍ ينتظره مَن بحث عنه، وجَدّ في تحصيله، وبلغ الغاية في تحقيقه هو: النّجاح الأعظم الّذي ليس بعده فشلٌ، وإنّه النّجاح الّذي ينتهي بالعبد إلى جنّة الخلد، ويحققّ له غاية السّعادة وكمال الرّضى، فكان مِن الواجب علينا ألّا نؤثر النّجاح العاجل على الباقي، بل ما أحوجنا ونحن ننظر إلى ذلك النّجاح الحقيقيّ -الّذي ليس ببعيدٍ عنّا- والّذي حثّنا ربّنا سبحانه على العمل له فقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصّافّات: 61].
أن نبذل في الوصول إليه أرواحنا ومهجنا، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فِي سَبْعِينَ، فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ لَهُمْ خَالِي: أَتَقَدَّمُكُمْ فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَإِلَّا كُنْتُمْ مِنِّي قَرِيبًا، فَتَقَدَّمَ فَأَمَّنُوهُ، فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَطَعَنَهُ، فَأَنْفَذَهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ.. [ 3 ]
فتأمّلوا كيف أنّ النّجاح الّذي تشتاق إليه النّفوس هو الفوز بجنّة الرّحمن، قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].
فيفرح فرحةً تسجّل أحداثها، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ *إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقّة: 19-24].
والعكس بالعكس في حال الفشل والخسارة؛ تراه يدعو على نفسه بالويل والثّبور، ويتمنّى الموت ليستريح مِن العذاب، ولكن هيهات هيهات أن تتحققّ أمنيّته، قال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقّة: 25-27].
فتأمّلوا صورة كلٍّ مِن الفائزين والخاسرين، واجتهدوا في تحقيق النّجاح وتجنّب الخسران
خاتمةٌ:
لقد مرّت أيّام الامتحانات على الطّلاب بهمومها وأحزانها، وصعوبتها وشدائدها، وسيعقبها -عن قريبٍ- نجاحٌ أو إخفاقٌ، وهكذا الدّنيا تمرّ سريعًا بآلامها وأحزانها، وأفراحها وسرورها، ثمّ يكون الحساب والجزاء، والرّبح والخسارة، والنّار والجنّة، فهل مِن معتبرٍ -في هذه الأيّام- لما سوف يجري يوم النّشر والحشر؟ وهل مِن متّعظٍ بما يكون لما سوف يكون؟
ألا فلنستيقظ مِن غفلتنا المطبقة الّتي أنست كثيرًا مِن النّاس يوم الحساب، فأصبح الواحد منهم يعيش هموم أولاده همًّا همًّا، ويكون معهم في أيّام الامتحان لحظةً لحظةً، يُرّغب ويُرّهب، ويَعدُ ويَتوعّد، ويبيّن لهم ثمرات الجِدّ والحرص، وعواقب الإهمال والتّفريط، ولكنّه لا يأمرهم بمعروفٍ، ولا ينهاهم عن منكرٍ، ولا يذكّرهم بيوم الحساب الأكبر، فلا يأمرهم بالصّلوات والواجبات، ولا ينهاهم عن المحرّمات، وكان الأولى مِن أن يبني لهم دنياهم، أن يجعل اهتمامهم لأمر آخرتهم، وأن تكون أيّام الامتحانات وترقّب النّتائج عبرةً وذكرى، وأن يأخذ مِن رهبة هذه الأيّام ما يُخفّف الرّهبة الكبرى الّتي لا رهبة في الدّنيا تعدلها، فلنجتهدْ في سلوك سُبُل النّجاح الدّنيويّ والأخرويّ، ولننافسْ غيرنا بسلوك كلّ سبيلٍ موصلٍ لتحقيق ذلك، ولنبتعدْ عن أسباب الفشل والإخفاق والكسل والخسران.
1 - سنن التّرمذيّ: 2416
2 - صحيح مسلم: 2940
3 - صحيح البخاريّ: 2801
رابطة خطباء الشام