الخطبة الأولى
أما بعد: إخوة الإيمان:
ليس يخفى أن أودية الدنيا سحيقة، وشعابَها كثيرةٌ متفرقة، والخلاصَ من فتنتها والسموَّ عن زخرفها والنجاةَ من غرورها يحتاج إلى مجاهدةٍ للنفس، واستعانة بالعليِّ الأعلى، فحب الدنيا مغروس في النفوس، ﴿
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20]. والحقيقة: ﴿
أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 28]
وكلما زاد المال أو تقدم بالإنسان العمر زاد ولعه وتعلقه بالدنيا، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((يهرم ابن آدم ويشب منه اثنتان: الحرص على العمر، والحرص على المال)).
وإذا كانت تلك حقائقَ يشهد الواقعُ بها ويؤكدها القرآن والسنة،
فما سبيل الخلاص من فتنة الدنيا المهلكة؟
إن أول طريق للخلاص من هذه الفتنة هو التفكيرُ المستمر في الآخرة، وإعطاؤها ما تستحق من الجهد والوقت والتفكير، ففي القلب استعدادٌ للانصراف للآخرة، كما أن فيه استعدادا للانصراف للدنيا، وحين تُزاحم إحداهما الأخرى فسيكون نصيب المغلوب ضئيلا، سواء كان ذلك للآخرة أم الدنيا، بين متاع الغرور وبين النعيم الدائم والحبور.
وثمة أمر آخر يعين على الخلاص من فتنة الدنيا، ألا وهو القناعة بما رزق الله وبالكفاف بالعيش، وفى الحديث الصحيح: ((طوبى لمن هدي للإسلام، وكان عيشه كفافا، وقنع)).
والإسلام يصحح المفهوم الخاطئ في الغنى، ويعتبر الأمن، والعافية والقوت القليل يعدل الدنيا بأسرها، فعن عبيد الله بن محصن رضي الله عليه وسلم ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنما حيزت له الدنيا)). فهذا الحديث يدعو إلى القناعة والرضا والعفاف، وهذا هو السبيل إلى عدم التشاغل والتلهي الزائد بالدنيا الذي حذر الله منها. عن عبد الله بن الشخير رضي الله عليه وسلم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: ﴿
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1] قال: ((يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت)).
إخوة الإسلام، مما يعين على الخلاص من فتنة المال والدنيا، التوكل الحق على الله، والاستغناء به وحده عما سواه، ففضل الله واسع، ورحمته تنال في الدنيا والآخرة لمن شاء، ومما يُنَبَّه عليه أن همة المرء ينبغي ألا تكون في أمور الدنيا وننسى الآخرة. فالله تعالى يقول: ﴿
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 134]. إذن علينا أن لا نكون قاصري الهمة في التفكير في الدنيا فقط والسعيَ لها وسؤال الله صلاحَها، بل لتكن هممنا ساميةً إلى نيل المطالب العالية في الآخرة أولا؛ وقال تعالى مبشرا ومحذرا ﴿
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ [الشورى: 20] وقال تعالى: ﴿
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 18، 19] وقال تعالى: ﴿
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ [البقرة: 200]. فالحذر من تعلق القلب بالدنيا ونسيان الآخرة، ثم لا ننسى بعد سؤال الله صلاحَ آخرتنا أن نسأله صلاح أمور دنيانا، بل ذلك أمر مطلوب فالعبد في أمس الحاجة إلى ربه في دنياه وآخرته، قال تعالى: ﴿
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص: 77]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يختم دعاءه بقوله: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ).
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا؛ وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا؛ وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة رسوله، أقول ما سمعتم..
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون، نحن بحاجة إلى نزداد تفكيرا في حقارة هذه الدنيا وهوانها، ولنتأمل في عيش خيار الخلق، وصفوة الأمة وخير القرون.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما تقول عائشة رضي الله عنها - ((ما شبع من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض)). ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت اللياليَ المتتابعةَ طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان خبزهم خبز الشعير)).
وعن فضالة بن عبيد الله رضي الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصفة، حتى تقولَ الأعراب: هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم فقال: (( لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة)). أما أبو هريرة رضي الله عليه وسلم فيحدث عن نفسه ويقول: لقد رأيتني أخر بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجرة عائشة من الجوع مغشياً عليّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي؛ يرى أن بي الجنون، وما بي الجنون، وما هو إلا الجوع.
إخوة الإيمان: ما ضر هؤلاء حالهم، ولا انتقض الفقر من أقدارهم، لأنهم يملكون رصيدا من الإيمان بالله به يهتدون، ويملكون الرضا والقناعة والزهد في الدنيا وبها يستغنون.
وبعد أيها الإخوة الكرام: فهذه الدنيا وقدرُها، وتلك نماذجُ من فهم العارفين بها.. على أن هذه الدنيا قد تُقبل على أناس يرزقهم الله الشكر والبذل فيما يقرب إلى الله، فلم تغرهم الدنيا عن الآخرة، بل سخروها لآخرتهم قبل دنياهم. والله حكيم يفعل ما يشاء فيبتلي بالخير والشر فتنة واختبارا، وهذه الدنيا يعطيها الله من يحب ومن لا يحب؛ أما الآخرة فلا يعطيها إلا من يحب.
اللهم ارزقنا القناعة بما رزقتنا وبارك لنا فيه وزدنا من فضلك في الدنيا والآخرة. اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا. اللهم اغننا بحلالك عن حرامك؛ بفضلك عمن سواك.