تفسير قوله تعالى: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾
قوله: ﴿ مَالِكِ ﴾ صفةٌ رابعة للفظ الجلالة "الله"، أو بدل منه مجرور مثله، وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره، وهو مضاف و﴿ يَوْمِ ﴾ مضاف إليه مجرور، و﴿ يَوْمِ ﴾ مضاف و﴿ الدِّينِ ﴾ مضاف إليه مجرور، وعلامة جرِّ كل منهما الكسرة الظاهرة على آخره.
وهذا بعد قوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 2، 3] تمجيدٌ لله تعالى؛ لقوله تعالى في حديث أبي هريرة: ((فإذا قال العبد: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾، قال الله: مجَّدَني عبدي)).
قرأ عاصم والكسائي: (مالك) بالألف؛ اسم فاعل من "المِلك" بكسر الميم وسكون اللام؛ كقوله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾ [آل عمران: 26].
ومعنى "المالك": المتصرِّف في الأعيان المملوكة كيف يشاء.
وقرأ باقي السبعة: (مَلِك)، والملِك هو الحيُّ الذي يتصرف فيأمر وينهى ويطاع، مأخوذ من "المُلْك" بضم الميم؛ كقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [البقرة:107، المائدة:40]، وقوله: ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [المائدة: 18]، وقوله: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ﴾ [فاطر: 13، الزمر: 6]، وقوله: ﴿ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ﴾ [التغابن: 1]، وقوله: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ [الملك: 1]، وقوله تعالى: ﴿ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ﴾ [الحشر: 23، الجمعة: 1]، وقوله: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1، 2].
و"مَلِك" على وزن "فَعِل" صفةٌ مشبَّهة تدل على ثبوت مُلكِه ودوامه، وأن له التصرف التام في الأمر والنهي.
وقراءة "مَلِك" أعم وأشمل من قراءة "مالك"؛ إذ إن كلَّ مَلِكٍ مالكٌ، وليس كل مالك ملكًا.
وقال بعضهم: بل قراءة (مالك) أعم وأشمل. قال في "لسان العرب"[1]: "روى المنذر عن أبي العباس أنه اختار ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾، وقال: كل من يملك فهو مالك؛ لأنه بتأويل الفعل، مالك يوم الدين؛ أي: يملك إقامته، ومنه قوله تعالى: ﴿ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾ [آل عمران: 26]".
وكلٌّ من القراءتين سبعية وصحيحة ثابتة، نزل بها جبريل من عند الله على النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا صح في الآية أكثرُ من قراءة، فكل قراءة بمثابة آية، ولا تجوز المقارنة بين ألفاظ تلك القراءات من حيث الجودة والحسن؛ إذ ليس في كلام الله جيد وأجود، وحسن وأحسن، بل كل كلامه تعالى في غاية الجودة والحسن، وفي أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
﴿ يَوْمِ الدِّينِ ﴾: "اليوم" في الأصل هو القطعة من الزمن، قليلة كانت أو كثيرة؛ أي: مطلق الوقت.
فمن إطلاقه على الزمن وإن كان قليلًا قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾ [آل عمران: 155]؛ أي: ساعة التقى الجمعان.
وقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الأنعام: 158]، وقوله تعالى: ﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 15]، ويُقال: "شاهدتك يومًا، أو سمعتك يوم كذا"؛ أي: لحظة من يوم[2].
كما يطلق على الزمن الطويل؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [الحج: 47].
وقال تعالى: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [المعارج: 4]، وهو اليوم الآخر، ويوم القيامة، كما ذكره الله تعالى في آيات عديدة من كتابه العزيز.
واليوم في الشرع: ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ومنه قوله تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 184]، وقوله: ﴿ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]، وقوله: ﴿ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 196]، وقوله: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى ﴾ [البقرة: 203]، وقوله تعالى: ﴿ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ﴾ [المائدة: 89].
ومنه قوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ [يونس: 3].
لأن الصحيح من أقوال أهل العلم أن هذه الأيام الستة كأيام الدنيا؛ لأن الله خاطَبَ العرب بما يَعرِفون.
وأيام الله تعالى هي نِعَمُه تعالى، وثوابه للمطيعين، ووقائعه في العاصين، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [إبراهيم: 5].
وقال تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الجاثية: 14].
و﴿ الدِّينِ ﴾ هو الحساب والجزاء على الأعمال خيرها وشرِّها، كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 25]؛ أي: جزاء أعمالهم، وقال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الواقعة: 86، 87]؛ أي: غير مجزيِّين بأعمالكم ومحاسبين عليها.
وذكر الله عن الكفار قولهم: ﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ [الصافات: 53]؛ أي: لمجزيُّون، وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ﴾ [الذاريات: 6]؛ أي: إن الجزاء على الأعمال لَواقعٌ حقيقة.
وقال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴾ [الانفطار: 9]؛ أي: تكذِّبون بالحساب والجزاء على الأعمال، وقال تعالى: ﴿ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الانفطار: 15]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾ [الانفطار: 17، 18]، وقال تعالى: ﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴾ [التين: 7]؛ أي: فما يكذبك بالبعث والحساب والجزاء على الأعمال؟
وتفسير الدِّين بالمحاسبة والمجازاة معروفٌ مشهور في كلام العرب.
قال شهل بن شيبان من قصيدة له في حرب البسوس[3]:
ولم يَبْقَ سوى العُدْوا *** نِ دِنَّاهم كما دانُوا
وقال آخر:
واعلَمْ وأَيْقِنْ أن مُلْكَك زائلٌ *** واعلَمْ بأنك ما تَدينُ تُدانُ[4]
وقال آخر:
حصادك يومًا ما زرعتَ وإنما *** يُدانُ الفتى يومًا كما هو دائنُ[5]
وفي المثل أو الأثر: "كما تَدينُ تُدانُ"[6].
والمراد بـ﴿ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ يوم القيامة، يوم قيام الناس من قبورهم، وقيام الأشهاد من الرسل والأنبياء والصالحين والملائكة، ويوم قيام الحساب، وقيام العدل الحقيقي، يوم إدانة الخلائق ومحاسبتهم ومجازاتهم بأعمالهم إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ، كما قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 17]، وقال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية: 28].
قال عمر رضي الله عنه: "حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزِنوا أنفسَكم قبل أن تُوزَنوا، وتأهَّبوا للعِرْضِ الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18]"[7].
ويطلَق الدِّين على المِلَّةِ والشريعة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]، وقال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85]، وقال تعالى: ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ﴾ [التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [التوبة: 36، يوسف:40، الروم:30]، وقال تعالى: ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ [التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9].
ويطلَق على الحُكْم والقضاء الشرعي؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ﴾ [النور: 2]؛ أي: في حُكمه وقضائه الشرعي.
وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ﴾ [يوسف: 76]؛ أي: في قضاء الملِك.
ويطلَق على العادة والشأن والحال والخلق[8].
قال امرؤ القيس[9]:
كدِينِك من أمِّ الحُوَيرثِ قبلَها *** وجارتِها أمِّ الرَّبابِ بمَأْسَلِ
وقال المُثَقِّبُ العَبْدِيُّ[10]:
تقول إذا دَرأتُ لها وَضِيني *** أهذا دِينُه أبدًا ودِيني
ويطلَق على الطاعة[11]؛ قال زهير[12]:
لئنْ حَلَلتُ بجوٍّ في بني أسد *** في دِينِ عمرٍو وحالتْ بيننا فَدَكُ
أي: في طاعة عمرو.
وفي السِّيَرِ أنه صلى الله عليه وسلم قال لقريش: ((كلمة واحدة تعطونيها تَملِكون بها العرب، وتَدِينُ لكم بها العَجَمُ))[13] ؛ أي: تطيعكم وتخضع لكم.
ويطلَق على القهر، ومنه: المدين للعبد، والمدينة للأَمَة[14]، ومنه قول عمرو بن كلثوم[15]:
وأيام لنا غرٌّ طِوال *** عصَيْنا المَلْكَ فيها أن نَدِينَا
أي: أن نُقهَر.
وقال ذو الإصبع العدواني[16]:
لاهِ ابنُ عمِّك لا أفضَلتَ في حَسَبٍ *** عني ولا أنت ديَّاني فتَخزُوني
والدَّين - بالفتح -: ما تَعلَّقَ بذِمَّةِ العبد من حقوق الله؛ كصيام نذر، أو من حقوق العباد؛ كثمن مبيع، أو ردِّ قرض، ونحو ذلك.
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ [البقرة: 282]، وقال تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 11].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال: ((لو كان على أُمِّكَ دَيْنٌ، أكنتَ قاضيَه عنها؟))، قال: نعم، قال: ((فدَيْنُ اللهِ أحَقُّ أن يُقضى))[17].
وقال الشاعر:
تُعَيِّرُني بالدَّينِ قومي وإنما *** تَدَيَّنْتُ في أشياءَ تُكْسِبُهم حَمْدَا[18]
ومعنى ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾:
أنه عز وجل مالكُ ذلك اليوم ومليكُه، لا مَلِك في ذلك اليوم ولا مالك سواه تبارك وتعالى؛ فهو تعالى المالك لجميع الأعيان، المتصرِّف فيها، لا ينازعه أحد في مملوكاته.
وهو المَلِك الذي أمرُه ونهيه نافذ في جميع مملكته جل وعلا، كما قال تعالى:
﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ﴾ [الأنعام: 73]، وقال تعالى: ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الحج: 56]، وقال تعالى: ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ ﴾ [الفرقان: 26]، وقال تعالى: ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر: 16]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، وقال تعالى: ﴿ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ﴾ [طه: 108]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾ [هود: 105]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ﴾ [النبأ: 38].
وإنما أضاف "الملك" ليوم الدِّين، وخصَّه به، دون ملكِ أيام الدنيا، مع أنه تعالى مالكُ الدنيا والآخرة ومليكهما، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى ﴾ [الليل: 13]، وقال تعالى: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ﴾ [طه: 114، المؤمنون: 116]، وقال تعالى: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ﴾ [الإسراء: 111، الفرقان: 2]؛ لعظَمةِ ذلك اليوم، وتفرُّدِه تعالى بنفوذ الأمر فيه؛ حيث يظهر للخلائق تمامَ الظهور تفرُّدُه بالملك حقيقة، وتمام ملكه وعدله تعالى وحكمته، وانقطاع أملاك الخلائق الدنيوية، تلك الأملاك التي خوَّلها الله تعالى من شاء، كما قال تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 26]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 247].
وكما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾ [البقرة: 247]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 20].
وهذه الأملاك الدنيوية، ملوكُها وما ملَكوا ملْكٌ له جل وعلا.
ولهذا حرُم أن يتسمَّى بملك الأملاك؛ لأن الله عز وجل هو مالك الأملاك كلِّها؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((أخنعُ الأسماء عند الله رجلٌ تَسمَّى بملك الأملاك))[19].
وكثير من هؤلاء الملوك خارجون عن طاعته جل وعلا، مبارزون له في المعصية، كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾ [الكهف: 79]؛ أي: ملِكٌ عاصٍ لله ظالم للعباد.
بل كثير منهم يحكمون ممالكهم بغير حكم الله، ويَظلِمون عباد الله، ويتخوَّضون في مال الله بغير ما يرضي الله.
وقد حكَمَ الله تبارك وتعالى وقضى بزوال هذه الأملاك، ورجوعِ الملكِ له وحده في ذلك اليوم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ [مريم: 40]، وقال تعالى: ﴿ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ﴾ [الحجر: 23].
وذلك هو الملك الحقيقي، كما قال تعالى: ﴿ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ﴾ [الأنعام: 73]، وقال تعالى: ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الحج: 56]، وقال تعالى: ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ ﴾ [الفرقان: 26]، وقال تعالى: ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر: 16]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [الانفطار: 19].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يَقبِضُ الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا المَلِكُ، أين ملوك الأرض؟))[20].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يطوي الله عز وجل السمواتِ يومَ القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملِكُ، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملِك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟))[21].
بل إن ذلك اليوم هو اليوم الحقيقي، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا ﴾ [النبأ: 39].
فمجيئه حقٌّ، وفيه يظهر الحق تمام الظهور، وهو اليوم الذي يستحق أن يُعمَل له، وأن يُحسَبَ له كلُّ حساب، لا أيام الدنيا، بل ولا الدنيا كلها.
ولهذا نجد القرآن الكريم كثيرًا ما يقرن بين الإيمان بالله تعالى والإيمان بهذا اليوم "اليوم الآخر"؛ لأنه أكبر حافز على الاستعداد بالأعمال الصالحة[22].
وقد رُويَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "لولا الإيمان باليوم الآخر لرأيتَ من الناس غير ما ترى"؛ أي: إن ذلك اليوم أعظمُ مانعٍ للناس من التهالك في الشر والمعاصي.
وتلك الدار هي الدار الحقة، وتلك الحياة هي الحياة الحقيقية؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].
لهذا كله أضاف الله تبارك وتعالى المُلكَ إلى يوم الدين، إضافة إلى أن في قوله قبل هذا: ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2] ما يدل على أنه مالك الدنيا.
قال ابن كثير[23]: "وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه؛ لأنه قد تَقدَّمَ الإخبار بأنه ربُّ العالمين، وذلك عام في الدنيا والآخرة...".
المصدر: « عون الرحمن في تفسير القرآن »
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|