عظَّم الله عز وجل كتابَه العزيز في مطلع السورة، وبيَّن أنه هدى للمتقين المتصفين بالصفات المذكورة، وأكَّد وحصر الهداية والفلاح فيهم، ثم ذكَرَ عز وجل الذين لم يهتدوا بالقرآن، ففاتَهم هدى ربِّهم وتوفيقُه.
وهم قسمان: قوم أظهَروا الكفر، ذكَرَهم عز وجل بقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ الآيتين [6، 7]، وقوم أظهَروا الإيمان وأبطَنوا الكفر، وهم المنافقون، ذكرهم بقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8] الآيات، إلى قوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 20]، وهكذا جاء تقسيم الناس في سورة النور إلى ثلاثة أقسام: مؤمنين، وكفار، ومنافقين.
قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ الكفر معناه في اللغة: الستر والتغطية، ومنه سمي الزارع كافرًا؛ لأنه يستر البذر ويغطيه في الأرض، قال تعالى: ﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾ [الحديد: 20]؛ أي: أعجب الزراعَ، ومنه سميت الكفارة كفارة؛ لأنها تستُر الذنبَ وتغطيه، وسمي الليل كافرًا؛ لأنه يستر الكونَ بظلامه، وسمي وعاء طلع النخل "الكُفُرَّى"؛ لأنه يستر ما بداخله من الطلع.
وهو في الشرع نوعان: كفر أكبر، مضادٌّ للإيمان، ومخرِج من المِلَّة، وموجب للخلود في النار.
وقد قسَّمه ابن القيم إلى خمسة أقسام[1]:
1- كفر تكذيب وجحود، وهو اعتقاد كذب الرسل فيما جاؤوا به من عند الله، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ﴾ [العنكبوت: 47].
2- كفر استكبار وإباء - مع التصديق - ككفر إبليس - لعنه الله - كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34]، ومنه كفر اليهود كما قال تعالى عنهم: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].
3- كفر إعراض، بأن يُعرِضَ الإنسان عن الرسول صلى الله عليه وسلم بسمعه وقلبه، ولا يصدِّقه ولا يكذِّبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء إليه البتة.
4- كفر الشك، بأن لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بكذبه، بل يشكُّ في أمره، قال ابن القيم: "وهذا لا يستمر شكُّه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملةً".
5- كفر النفاق، وهو أن يُظهِر الإيمان بلسانه، وينطوي بقلبه على التكذيب، وهذا هو المنافق.
والنوع الثاني من الكفر: الكفر الأصغر، الذي لا يضاد الإيمان بالكلية، ولا يُخرِج من الملة، ولا يخلد صاحبه في النار؛ وإنما يوجب استحقاق الوعيد، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((سِبابُ المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر))[2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض))[3]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت))[4].
ومن الكفر الأصغر: الرياء؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((أخوَفُ ما أخاف عليكم الشركُ الأصغر))، فسئل عنه فقال: ((الرياء))[5].
ومنه كفر النعمة وعدم شكرها، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
﴿ أَأَنْذَرْتَهُمْ ﴾ [البقرة: 6]: الهمزة للاستفهام والتسوية، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
والإنذار: الإعلام مع التخويف، كما قال لقيط الإيادي مخبرًا ومحذِّرًا قومَه غزوَ كسرى[6]:
أَبلِغْ إيادًا، وخلّل في سَراتِهمُ
إني أرى الرأيَ إن لم أُعصَ قد نصعَا
يا قومُ لا تأمَنوا إن كنتمُ غُيُرًا
على نسائِكمُ كسرى وما جمَعَا
هذا كتابي إليكم والنذير معًا
لمن رأى رأيَه منكم ومَن سَمِعَا
وقد بذَلتُ لكم نُصحي بلا دَخَلٍ
فاستيقِظوا إنَّ خيرَ العلمِ ما نفَعَا
وهو صلى الله عليه وسلم منذِرٌ ومحذِّر للكافرين، ومبشِّر للمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45، 46]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الفتح: 8].
﴿ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ﴾ [البقرة: 6] "أم": حرف عطف؛ أي: أم لم تُعلمهم وتُخوفهم.
والمعنى: مستوٍ على هؤلاء الكفار المعاندين، أأنذرتَهم وخوَّفتَهم عقابَ الله تعالى وعذابه أم لم تخوِّفهم؛ أي: يستوي ويعتدل عندهم إنذارُك لهم وعدم إنذارك؛ أي يستوي عندهم الأمران، كما قال الأعشى[7]:
وليل يقول المرءُ مِن ظلُماتِه: *** سواءٌ بصيراتُ العيونِ وعُورُها
وكما في قول بثينة:
سواءٌ علينا يا جميلُ بن معمر *** إذا متَّ بأساءُ الحياةِ ولِينُها[8]
قوله: ﴿ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 6] أي: لا يُصدِّقون بما جئتَ به، ولا ينقادون له، كما قال تعالى عن المعانِدين من أهل الكتاب: ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ﴾ [البقرة: 145]، وفي هذا تسليةٌ له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حريصٌ على أن يؤمِن جميعُ الناس.