01-02-2023, 07:47 AM
|
|
SMS ~
[
+
]
|
|
|
|
زهد الرسول صلى الله عليه وسلم
إن المتأمل لخطاب الثناء في النص القرآني، سيلفي أن الله تعالى قد أثنى على صفوة أنبيائه ثناءً جميلًا، يتوافق مع طباعهم التي جبلوا عليها وصقلوها عبر الممارسة العملية في واقع الحياة، فكانت صفات كالصدق والأوبة والحلم والصبر من أكثر الصفات التصاقًا بالنبوة، كما أبانت عن ذلك كثير من الآيات المادحة لأخلاق الأنبياء، فإبراهيم أمة، أواه، حليم وصِدِّيق وأيوب عليه السلام صبور أواب، ويوسف من العباد المخلَصين، وهَلُمَّ جرًّا، لكن لغة الثناء بلغت مبلغها الراقي في الآية الرابعة من سورة الشرح؛ قال تعالى: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 4]، وأدركت منزلها العظيم في سورة القلم، حينما نطق الوحي بلغة الدفاع القوي عن النبي عليه السلام نافيًا عنه تهمة الجنون، فجاء المدح الرباني في أبهى صوره وأعلى مراتبه قائلًا: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4] ومواضع المدح في القرآن كثيرة، لكن آية القلم تحمل لمسة قرآنية بيانية مشرقة استوقفتني كثيرًا؛ لأنها تضع النبي فوق الأخلاق نفسها عبر أسلوبية التوكيد المتحقق بالناسخ واللام، واستخدام حرف الجر "على" المفيد لمعنى الاستعلاء؛ ليجعل النبي فوق الأخلاق كلها، لينهي هذه اللمسة الجميلة بلفظ الخلق نكرة بما يدل على التعظيم الذي أكَّده الوصف بالمبالغة، إنه اعتراف قرآني بعظمة خلق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي هيَّأه الله تعالى وأعدَّه إعدادًا لحمل الرسالة الخاتمة، رسالة ستغير مجرى التاريخ كله، وعليها سيكون تحقق المصير البشري.
لقد بعث النبي في بيئة عربية تجذرت فيها عقيدة الوثن، لكن شجرة الأخلاق كانت نامية في تربة عربية خصبة شب فيها العرب على مكارم الأخلاق التي احتاجت فقط إلى التشذيب والتقليم، لذلك أخبرنا النبي عليه السلام قائلًا: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فقد كانت أخلاق كالصدق والوفاء وإغاثة الملهوف والكرم وغيرها من المحامد طبعًا من طباع العرب وسلوكًا مدنيًّا، تجلت معالمه واضحة في واقع الحياة، ولعل التراث العربي والتاريخي زاخر بنماذج تؤكد اتصاف العرب بهذه الصفات، ففي معلقة عنترة تعبير صريح عن الفخر بالمحامد قال عنترة بعد أن حيا الدار:
أثني علي بما علمت فإنني
سَمْحٌ مُخالقَتي إذا لمْ أُظْلَمِ
وإذا صحَوت فما أقصر عن ندًى
وكما علمت شمائلي وتكَرُّمي
وفي قصة السموأل الشهيرة دليل قاطع على خلق الوفاء الجميل من رجل يذبح ابنه أمامه بعدما ظفر به الملك خارج الأسوار، ويستغله كورقة ضغط؛ ليحصل على متاع امرئ القيس الذي استودعه عنده، فيرفض إعطاءه الأمانة وفاءً لصاحبها حتى يعود، قصة حركت همة الأعشى فنظم واحدة من عيون الشعر في الوفاء والحديث، فهذا الباب طويل لا حد له، وحسبنا ما أوردناه من دلائل تكفي لإدراك قيمة الأخلاق في البيئة العربية، رغم بعض الاعوجاج الذي كان موجودًا، واحتاج إلى تعديل وتقويم أصلحه النبيُّ بحكمة ورويَّة، لذلك لم يجد النبي عليه السلام عَنَتًا في نشر القيم الجميلة وتشذيب شجرة الأخلاق بقدر ما وجد النَّصَبَ والمشقة في زرع بذرة التوحيد التي واجهتها قريش بكل قوة وبكل أسلوب أُتِيحَ لها لإخمادِ وهَجِ دعوةٍ أراد الله لها أن تكون مصباحًا مشتعلًا يُضيء السُّبلَ أمام البشرية.
لقد تمكن النبي من نشر الفضائل الموافقة للمنهج الرباني وإصلاح مفاسد كانت تعُجُّ بها مكة يومئذ؛ كوأد البنات ومجالس اللهو، وما ينْجُم عنها من صور العربدة والمجون وألوان الميسر والأزلام، وغير ذلك مما يتنافى مع فطرة الإسلام، ولعل أخلاقه عليه السلام كانت نبراسًا وهاجًا أنار الطريق أمام المؤمنين في مكة والمدينة، فنظروا قرآنًا يمشي على الأرض ومنهاجًا إلهيًّا تُرَى له الآثارُ واضحةً أمام أعينهم، وكيف لا يرون ذلك وهو الذي كان محمود الخلق قبل بعثته وعلى خلق عظيم بعدها، لذلك لا غرابة أن يكون الزهد جزءًا من أخلاق النبوة، وهو الذي خُيِّر بين الدنيا والملك والخلود وحمل الرسالة، فاختار المهمة الجليلة التي تنوء بها الجبال، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة على الوجه الأكمل.
إن الحديث عن زهد النبي عليه السلام يستوجب منا تعرية المفهوم وتجليته، تفاديًا لكل التباس قد يعتري الأذهان، ذلك أن الزهد يعني امتناع الإنسان الزاهد عن متاع الحياة الدنيا وهو قادر عليها، لا أن يكون مُعوزًا يعيش حياة الفقر المدقع، لذلك فالزهد لا يعني البتة فقر المرء وضيق ذات يده، فسليمان عليه السلام أُوتي ملكًا عظيمًا، فسخر الله تعالى له الجن والطير والريح، ومع ذلك لم يلتفت إلى زينة الحياة، ولا استمرأ لذة الملك، ونبينا عليه السلام كانت له تسع نسوة، وعبدالرحمن بن عوف كان خزانة من خزائن الله بلغ من اليسار مبلغًا عظيمًا، أنفق ما شاء الله له أن ينفق في سبيل الدعوة، وكان من أكثر الزهاد، فالزهد استشعار باطني يعيش في الداخل ولا علاقة له أساسًا بالتعامل الخارجي مع الأشياء، لذلك قيل في واحد من أروع تعاريف الزهد: "ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة ـ إذا أصبت بها ـ أرغب منك فيها لو لم تصبك"، وهو تعريف يبين حقيقة الزهد الذي قد تخال الكثير من الأفهام، أنه انقطاع عن الدنيا وهروب منها إلى الآخرة، فتترك المحللات والمباحات، ويظن أن مُصِيبَها في ترفٍ ونِعمَةٍ تنْأى به عن منزلة التزهدِ ولعلَّ فهْمًا من هذا الضَّرب يكون قد ضَيَّقَ الخِناقَ على خلق عظيم وحصره في دائرة مركزها، فهم لغوي بسيط يعني الإعراض والترك لاحتقار الشيء، أو لارتفاع الهمة عنه، وهو فهم لا بد أنه سيكون وبالًا على الطبع، فيكون مدعاة للخمول والكسل، وعدم إعمار الأرض وبناء الحضارة التي أرادها الإسلام لبني الإنسان، لذلك يعجبني تعريف ابن القيم رحمة الله عليه حينما قال: "الزهد سفر القلب من وطن الدنيا وأخذه في منازل الآخرة "ليصيب بكلامه هذا لب الأمر وجوهره وهو القلب، المرتع الأول والأخير لهذا الخلق الذي لا يعد غاية بقدر ما هو سفر وانطلاق به إلى دار الخلود.
لذا فالرسول عليه السلام قدم دروسًا رائعة في الزهد لمن حوله ومن جاء بعده وإن فهمها البعض فهمًا خاطئًا، فاعتبروه انقطاعًا عن الدنيا ورضاءً بالشظف واليسير، فنبع من ذلك تيار التصوف الذي عبَّر عن سوء فهم لهذا الخلق، فلو أمعن الناظر فكره في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، لرأى أنه عليه السلام لم يكن فقيرًا بما تحمله الكلمة من معنى، فمحمد عليه السلام وإن نشأ يتيمًا، فقد كفله جده أبو طالب وكان سيدًا في قوه ومن أغناهم مالًا وقد ذكر اليعقوبي أن عبدالمطلب عند موته لف في حلتين من حلل اليمن قيمتها ألف مثقال من الذهب، وكان نبينا يرعى الغنم ويمارس التجارة؛ أي: إنه كان يحصل مداخيل مالية، والله تعالى بين غنى رسوله في الضحى قائلًا: " ﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾ [الضحى: 8]، والعائل الفقير كان له عيال أو لم يكونوا، فهذا تعبير قرآني صريح على أن النبي كان غير محتاج فزواجه بأغنى وأجمل نساء قريش خديجة رضي الله عنها، كان يكفيه الفقر، أما تلك الأحاديث التي تكلمت عن عصب بطنه بالحجر ومرور الأهلة الثلاثة دون أن يوقد في بيت النبي نار، فهي أحاديث صحيحة لا يردها عاقل، لكن تلك الوقائع ليست دالة على فقر النبي عليه السلام، وإنما هو منهاج عملي أراد النبي أن يعلم به الأمة الصبر ومنطق الزهد ومعنى الفناء والنقص البشري، لذلك شاءت الإرادة الإلهية أن تحصل تلك الوقائع مع النبي حتى يكتمل المنهاج النبوي، ويتحقق في أرض الواقع أمام أنظار أزواجه والصحابة رضوان الله عليهم، ولعل هذا ما أشار إليه الرافعي في الجزء الثاني من وحي القلم الصادر عن المكتبة العصرية في بيروت ص 44، حينما اعتبر وضع الحجر ورهن الدرع وخبز الشعير رموزًا جميلة للسمو بالنفس حينما قال: "معنى خبز الشعير والقلة والضيق، ورهن الدرع عند يهودي من سيد الخلق وأكملهم، ومن لو شاء لمشى على أرض من الذهب، فهو صلى الله عليه وسلم يعلم الإنسانية أن الرجل العظيم النفس لا يكون في الحياة إلا ضيفًا نازلًا على نفسه، ومن معاني ذلك الفقر العظيم أن خبز الشعير من ورموز الحياة على التحلل من الأثرة والبراءة من هوى الترف ورهن الدرع رمز آخر على التخلص من الكبرياء والطمع.."، وحتى وإن سلمنا بهذا الواقع فلا بد أنه شكل فترات من الاستثناء، مثلما يقول الدكتور السيد إبراهيم أحمد في كتابه منهاج الزهد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: "هذه الصورة الشديدة القتامة لمعاش القوم في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، ربما أنها تعكس لنا فترات استثنائية في حياة المجتمع، وليست النمط السائد على الدوام؛ حيث يكون من المحال فعلًا أن تكون حياة الناس بهذه الصورة المزرية ويضيف الكاتب في نفس السياق معلقًا على الأمر: "ولو كان الأمر مستديمًا والجوع فاشيًا، لانتشرت فيهم الأوبئة والأمراض، ولتعذر عليهم القيام بفرائض الصلاة والجهاد والدعوة في سبيل الله"، ثم كيف يكون النبي مفتقرًا، وقد فتح الله له البلاد وغنم الغنائم، فقد تعدت منابع ثروته عليه السلام بالإضافة للتجارة والرعي كان له خمس الغنائم؛ قال تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنفال: 41]، ومن الفيء كان له أرض بخيبر وعقارات ومزارع فدك أضف إلى هذا وذاك الهدايا التي كان يتلقاها من ملوك الأرض، فهذا أكيدر دومة يهديه جبة سندس وملك ذي يزن يهديه جبة أخذها بثلاثة وثلاثين بعيرًا، فقبلها والأمثلة في التاريخ على مثل هاته الهدايا كثيرة.. لكن النبي كان صارفًا بصره عن متع الدنيا، فلو أرادها لأجرى الله من تحته الأنهار، وجعل الجبال له ذهبًا وفضة، لكنه عليه السلام آثر الآخرة على الدنيا، وأدرك زوال هذا العالم الفاني الذي لا يساوي شيئًا، وهي صورة كثيرًا ما نقلها المعلم الأكبر لأصحابه بطرق بيداغوجية متباينة، فقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة برفقة أصحابه، فسألهم عن شرائها، فعجب الصحابة للأمر، وردوا أنهم لن يأخذوها ولو أعطيت لهم بغير مقابل، فبيَّن لهم النبي أن الدنيا عند الله كحال هاته الشاة عندهم لا تساوي شيئًا، صورة تعليمية جميلة تنطلق من المادي الملموس، وتضرب المثل الواقعي المحسوس، لينقل بذلك النبي صورة الفناء وانعدام قيمة الدنيا في مقابل غلاء سلعة الآخرة التي تحتاج الاجتهاد والعمل الصالح، إنه وعي نبوي نابع من تمثل القول الإلهي: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 131]، فالنهي القرآني صريح ومنطق المقارنة يثني النبي عن النظر فيما أُوتي إياه أهل الكفر؛ لأن ذلك مجرد فتنة لهم، لذلك كان الوحي منارة للنبي عليه السلام في سلوك هذا النهج القويم في الحياة تعليمًا للصحابة وللأمة من بعدهم، للاقتناع بحقارة الدنيا الفانية وضآلتها أمام الآخرة ونعيمها الباقي، لذلك ظهرت صور زهده عليه السلام في كل مناحي الحياة وتفاصيلها التي سنتاولها وفقًا للتصنيف الآتي:
1- زهد النبي عليه السلام في بيت خديجة:
إن أول صورة تكشف حقيقة زهد النبي عليه السلام، هي زواجه من خديجة بنت خويلد رضي الله عنها سيدة قريش التي أقبل عليها الأسياد والزعماء يطلبون يدها، فامتنعت عنهم، وعرضت زواجها على النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما حكت ذلك مصادر التاريخ والسير، فقد رأت أمانة محمد وصدقه وسجاياه الطيبة، فلم تتمالك نفسها لتفضي بسرها لصديقتها نفيسة، فقالت: يا نفيسة، إني أرى في محمد بن عبدالله ما لا أراه في غيره من الرجال، فهو الصادق الأمين هو الشريف الحسيب، وهو الشهم الكريم، وهو إلى ذلك له نبأ عجيب وشأن غريب، وقد سمعت ما قاله لي غلامي ميسرة عنه، فقالت نفيسة: أتأذنين وأنا أدبر الأمر، قالت نفيسة: فأرسلتني إليه دسيسًا أعرض عليه نكاحَا فقبِل.
فكلم محمد عليه السلام أعمامه أبا طالب والعباس وحمزة، فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه، فكانت خديجة رضي الله عنها نعم الزوجة المعينة له في كل أمر، سواء قبل بعثته أو حين البعثة، فهي من كانت تحمل له الزاد والماء إلى غار حراء، حيث ينقطع هناك متأملًا متدبرًا، وهي التي أنفقت أموالها طوعًا في سبيل الدعوة، فلو أن رجلًا كان قد تزوج من امرأة ذات حسب ونسبٍ، وذات مال وجمال، لآثر الدنيا وزخرفها والتفت إلى مباهجها، لكن هيهات أن يحصل ذلك مع النبي عليه السلام، الذي رأى من آيات ربه ما رأى وكان إلى الكفاف أميل، وإلى الشظف أكثر جنوحًا، ويقدم الرافعي في وحي القلم الجزء الثاني ص55 المكتبة العصرية صيدا بيروت: "ونظرة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوجود نظرة شاملة مدركة لحقيقة اللانهاية، فيرى بداية كل شيء مادي هي نهايته في التو واللحظة، فلا وجود له إلا عارضًا مارًّا، فهو في اعتباره موجود غير موجود، مبتدئ منته معًا، وبذلك تبطل عنده الأشياء المادية وتأثيرها، فلا تتصل بنفسه العالية إلا من أضعف جهاتها، ويجد لها الناس في حياتهم الشجرة والفرع والثمرة، وما لها عنده هو جذر ولا فرع، وبهذا لم يفتنه شيء ولم يتعلق به شيء"، لذا فالناظر إلى حياة النبي في بيت خديجة يرى أنها حياة قامت على رفض الملذات وبهارج الدنيا، وهو رفض نابع من قناعة داخلية أسسها الإيمان بالوحي والاقتناع بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف لامرأة يقرئها الله تعالى السلام أن ترضى بزخرف زائل، فقد ورد في الأثر أن جبريل عليه السلام قال للنبي: (هذه خديجة أقرئها السلام من ربها، وأمره أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب)، منطق منة هذا النوع لا بد أنه سيكون حافزًا نفسيًّا لرفض الدنيا الفانية والتطلع إلى النعيم الخالد، كما أن منهاج النبي عليه السلام البادي في تواضعه وعفته وترفعه عن الملذات، إذ لم تظهر عليه صلى الله عليه وسلم أي أمارة من أمارات الترف والبذخ، فكان كثير الصيام منقطعًا في غار حراء عن هذا الوجود، لكن ذلك لا يعني مطلقًا انصرافه عن تدبير شؤون التجارة كما قد يتوهم الواهم، وإنما كان عليه السلام حريصًا على تنمية الأرباح مشرفًا حقيقيًّا مسؤولًا عبر منطق متوازن قوامه الاعتدال بين أمر الدنيا ومنهاج التعبد، وتدبر الملكوت وتلقي الوحي وتبليغ الرسالة.
إن من نهج هذا النهج القويم المصطبغ بالاعتدال، وكان متزوجًا من أثرى نساء قريش وأجملهن صورة، فلم تتحرك في قرارة نفسه أدنى رغبة للتظاهر بمظهر الأثرياء، ولا تململت في صفاء قلبه نزوة اشتهاء امرأة، فلم يتزوج عليه السلام حتى ماتت خديجة رضي الله عنها، لا يمكن مطلقًا أن يرضى بغير الزهد منهاجًا قويمًا في الحياة، يقتدي به من حوله عن اقتناع داخلي بأن ما عند الله خير وأبقى، لا يقارن البتة بنعيم الدنيا الزائل، وهم ينظرون الزهد متحركًا يمشي أمامهم، فلا يلبثون أن يحذوا حَذو نبيهم في تمثل الدنيا وفهم فلسفة الوجود.
زهد النبي بعد خديجة مع زيجاته:
قد يحتج المعاندون والمرجفون في أن اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم لزوجات عديدة كان نابعًا من هوسه بالنساء، واشتهاءَه لهن مما يتنافى مع منهاج الزهد، وهو مدخل مرفوض لأن الحِكَمَ من زواج النبي عليه السلام تراوحَتْ بين ما هو تعليمي وتشريعي واجتماعي وسياسي، ذلك أن أمر التبليغ كان يحتاج إلى مساعدة عبر نقل أمور الوحي التفصيلية في جانبي الأحكام والتشريع؛ كمسائل الغسل وآداب الجماع، وبعض الممارسات الاجتماعية والذاتية، كفلي النبي عليه السلام لثوبه، وخدمة نفسه؛ فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد"، فعن عمْرَةَ قالت: قيل لعائشة: ماذا كان يعمل رسول الله في بيته؟ قالت: كان بشرًا من البشر، يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه"، وغيرها من مسائل لا يمكن إبلاغها إلا من داخل حجرات الأزواج، ولو كان النبي ممن شغف قلبه بالنساء، لصبا إليهن قبل زواجه على عادة ما يفعل شبان مكة يومها، ولتسابقت عليه جميلات قريش وهو الشاب الذي وُهِبَ قدرًا كاملًا من الجمال، لكنه عليه الصلاة والسلام كان متعففًا طاهرًا لم تجل في خاطره تلك الهواجس التي تحرك الشهوة، ولعل عرض خديجة الزواج به كما سبقت الإشارة لدليل آخر من أدلة عفته وترفعه عن النزوة، مثلما ترفع عن الثروة، لذلك كان زهده عليه السلام واضح المعالم لا تشوبه شائبة في كل مظاهر الحياة التي يقبل عليها الإنسان؛ كالمطعم والمشرب والملبس والمسكن، والمضجع والممتلك، زهد لا يحرم زينة الله أبدًا؛ استجابة لقوله تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 32].
إنه زهد يترفع عنه من باب اكتمال أخلاقه عليه السلام وعظمها، ومن باب ابتغاء الدار الآخرة، حتى عن زوجاته طلبن منه عليه السلام شيئًا من التوسعة، فيخفف عنهن ما هن به من شظف العيش وضيقه، فخيَّرهن بين السراح الجميل والبقاء ناقلًا إليهن رسالة عظيمة عن حقارة الدنيا وزوالها، وعظيم النعيم في الآخرة الباقية، فحظين بشرف كبير هو تسميتهن بأمهات المؤمنين لاقتناعهنَّ بمنهاج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كان زهده ظاهرًا خارج أسوار الحجرات، وبين جدرانها؛ ليمنح هذا الخلق الكريم الراقي مظهرًا تكاملت جوانبه لم تبد صدعًا يسيرًا، ولا فجوة صغيرة مطلقًا في حياته.
مسكن النبي صلى الله عليه وسلم ومضجعه:
لم تكن حجرات ولا بيوت النبي عليه السلام ملأى بالأثاث والزينة على عادة ما يكون لدى الزعماء والقادة، أو كان هناك نزر يسير من التفاوت بين حجرة وأخرى؛ من حيث التأثيث، فقد كانت الفرش على درجة تنأى عن الرغد والترف، بسيطة إلى حد يثير شفقة أزواجه رضوان الله عليهم، وتبكي عينني عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدمًا حشوه ليف، وقالت رضي الله عنها: كانت وسادة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ينام عليها بالليل من أدم حشوها ليف".
وعن حفصة رضي الله عنها قالت: "كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته مسحًا نثنيه ثنيتين فينام عليه، فثنيناه له ليلة بأربع، فلما أصبح قال: ما فرشتموا لي الليلة؟ فذكرنا ذلك له فقال: ردوه بوطأته فقد منعتني الليلة صلاتي.
فلم يكن هناك أي تمييز بين البيوت أو تفاضل فيما يؤثتها من أثاث قوامه الشظف وملاكه التنزه عن مظاهر البهرجة والزينة التي كان نبينا صارفًا عنها بصره، فقد روي عنه عليه السلام أنه جاء زائرًا بيت فاطمة رضي الله عنها، ثم رجع فأرسلت وراءه عليا يستفسر عن مدعاة عدوله عنها، فقال النبي: إني رأيت على بابها سترًا موشيًا، فقالت فاطمة: ليأمرني فيه بما شاء فقال عليه السلام: لترسلي به إلى فلان أهل بيت بهم حاجة، ليست لي حاجة بزخرف الدنيا"، وقد نزع النبي أستارًا في بيت عائشة، فقال: "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه قلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاءً، فقال: مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"؛ رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
حديث يعكس بجلاء رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للوجود في تشبيه بديع يستظل فيه راكب تحت ظل شجرة برهة من الزمن، ثم ينطلق عنها راحلًا، إنها فلسفة تجلي فهم النبي عليه السلام لهذا العالم الذي يؤول فيه النعيم إلى زوال وانتهاء، فلسفة ينقلها النبي الكريم إلى أصحابه عبر ضرب المثل بأسلوب تعليمي جميل يقرب الصورة ويكشف الحقيقة المطلقة للحياة الدنيا، منهج تربوي يسلكه النبي مع الجماعة مثلما يسلكه مع الفرد، ففي حديث أنس بن مالك قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير مرمول بشريط تحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف ما بين جلده وبين السرير ثوب، فدخل عليه عمر فبكى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا عمر؟ قال: "أما والله ما أبكي يا رسول الله ألا أكون أعلم أنك أكرم على الله من كسرى وقيصر فهما يعيثان فيما يعيثان فيه من الدنيا، وأنت يا رسول الله بالمكان الذي أرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا وتكون لنا الآخرة؟ فقلت: بلى يا رسول الله قال: "فإنه كذلك؛ (الأدب المفرد للبخاري)، باب الجلوس على السرير حديث رقم 1140.
إن المتأمل لهذه الأحاديث والمتفرس نظره في مضجع النبي الكريم ومسكنه عمومًا، سيقطع حتمًا بزهد رسولنا الحبيب عليه أفضل الصلاة والسلام، وهو الذي فتحت له الدنيا، فغنم الغنائم والأنفال، فلم يلتفت إليها وأرخى ظلال الزهد في بيوت أزواجه تعليمًا لهن وتربية للأمة من بعدهنَّ، فهو حامل الرسالة، وتبليغها يحتاج بعد رؤية وبصرًا حديدًا بالأفق المستقبلي، وقد كان عليه السلام متمتعًا بذلك في كل مشرب من مشارب الحياة، فلإنجاح الدعوة وحمل الناس على قبولها والأخذ بزمامها، ومساعدته على تبليغها التبليغ الكامل، كان لا بد من أن يتخذ الزهد منهاجًا عمليًّا في الحياة في كل تفاصيلها وجزئياتها مما سنعرض له في المحاور التالية:
مطعم النبي صلى الله عليه وسلم ومشربه:
لقد وردت أحاديث كثيرة في زهد النبي عليه السلام في المطعم والمشرب، لكن لا ينبغي أن يحملها القارئ على محمل الدوام، فيحكم على أن حال النبي صلى الله عليه وسلم كان موسوما بضيق ذات اليد والعوز الذي لا يجد معه ما يسد به الرمق، فقد سبق أن بينا أن الرسول لم يكن فقيرًا مطلقًا، وفصلنا الكلام في مداخيله المالية المتعددة، كما أنه كان يطعم من الله تعالى، لذلك فتكملة لصور زهده عن الدنيا كان لا بد أن يظهر ذلك في كل النعم بما فيها مطعمه عليه السلام، قال النعمان بن بشير: لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه؛ (والدقل الرديء من التمر).
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقيل: ما كان يعيشكم؟ قالت الأسودان: التمر والماء؛ (البخاري 2379 ومسلم 5080)، وعن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير؛ (البخاري 4994).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفًا مرققًا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطًا بعينه فقط؛ ( البخاري 5001).
وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجتمع له غذاء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف، ولا كان يشبع من الطعام إلا إذا اجتمع عنده ضيوف، فكان يتكلف إحضار الطعام لضيوفه، ويؤاكلهم من باب المؤانسة والكرم وحسن الخلق؛ (أحمد 13356)، وقال الألباني في مختصر الشمائل هذا الإسناد صحيح على شرط الشيخين.
إنها أحاديث واضحة وغيرها كثير ـ لا يسع المقام لإيرادها كاملة - تجلي حقيقة معيشة الرسول في بيوت أزواجه، معيشة طبعها الشظف والكفاف في القوت والصبر على قلته، فلم يتطلع عليه السلام إلى لذيذ الطعام وشهيه وزخرف الموائد، فلم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان ولا أكل خبزًا مرققًا حتى مات صلوات ربي وسلامه عليه.
ملبس النبي صلى الله عليه وسلم:
لتكتمل صورة تفاصيل الحياة في شقيها الداخلي والخارجي، نورد هذا الجزء الخاص بزهد النبي عليه السلام في ملبسه الذي كان قمة في التواضع والبساطة، فهو لم يرتد ناعمًا قط، فعن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله عنها إزارا غليظا وكساء ملبدا فقالت: في هذا قُبِضَ رسول الله.(الترمذي 2299) وقال حديث حسن صحيح.
لكن حديثًا من هذا النوع وغيره مما دل على زهد النبي في ملبسه، لا يجزم البتة في أنه عليه السلام كان لا يحب ارتداء الجميل من الثوب والرفيع منه، فقد ثبت أنه عليه السلام كان يرتدي أجمل الثياب في الجُمَعِ والعيدينِ، وحين مُقابلةِ الوُفودِ وزُعَماءِ القبائِل، في غير مَخْيلَةٍ ولا سَرفٍ، فقد لبِسَ البُرودَ اليمانية والقميص، وكذلك الحَبَرَةُ، وكانت يومها من أشهر الأنواع، فعن قتادة قال: قلنا لأنس بن مالك: أي الثياب كانت أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الحبرة؛ (رواه مسلم)، والحبرة ثوب يماني ذو خط أحمر وذو خط أسود أو أبيض، وكان من أجود وأشهر أنواع الملبس في ذلك التاريخ، كما أن النبي عليه السلام لبس أثوابًا رومية أُهديت إليه من الملوك والقياصرة، فقد أورد الترمذي حديثًا عن المغيرة بن شعبة قال: "أُهديت إليه صلى الله عليه وسلم جبة رومية ضيقة الأكمام، فلبسها فكانا إذا أراد يتوضأ أخرج كمه".
وعن جابر بن سمرة قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر"؛ (الترمذي).
ولبس النبي عليه السلام بردة سوداء فقالت عائشة: يا رسول الله، ما أحسنها عليك يشوب بياضك سوادها وسوادها بياضك، فبدت منها ريح الصوف، فألقاها وكان يحب الريح الطيبة"؛ محمد بن سعد الطبقات الكبرى ج1 بيروت دار صادر ص 453.
إن الناظر إلى هذه الأحاديث وغيرها كثير في باب الألبسة، سيجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان محبًّا لارتداء الجميل من الثياب في ظرفيات خاصة، فقط تستوجبها الضرورة الدينية؛ كالجمع والعيدين أو ضرورات سياسية؛ كاستقبال الوفود للظهور بمنظر أنيق يليق بمقام القائد والحاكم، ورجل السياسة العظيم، وكيف لا يفعل وهو الذي أخبرنا في الحديث الذي أورده مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده من رواية عبدالله بن مسعود ونصه كما ورد عند مسلم: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس.
وقد علق المناوي قائلًا: إن الله جميل؛ أي له الجمال المطلق، جمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال، يحب الجمال؛ أي: التجمل منكم في الهيئة، أو في قلة إظهار الحاجة لغيره والعفاف عن سواه.
مال النبي صلى الله عليه وسلم:
سبق أن ذكرنا تعدد مصادر ثروة النبي عليه السلام التي تراوحت بين تجارة وغنائم وفيء وهدايا الملوك، لكنه عليه السلام لم يلتفت إليها التفاتًا، ولا مال إليها ميلًا، فادَّخَرها لوقتِ حاجَة، رغم أن الدنيا بسطت له بسطًا ودان له شرقها وغربها، يروى أنه عليه السلام - كما جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري كتاب الجزية: باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب - قد جاءته أموال من البحرين وغنائم كثيرة، فلما وافت صلاة الصبح مع النبي عليه السلام وصلى بهم الفجر انصرف، فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، وقال: أظنُّكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: فأبشروا وأملوا ما يسرُّكم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلككم كما أهلكتهم، فما ارتاح حتى وزعها كلها، وقال: الآن استرحت، وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ من الغنائم الخمس مما يكفيه لعام ولأزواجه بغير مغالاة ولا إسراف، مقتصرًا على حاجاته البسيطة لا غير، ويترك أرباع الخمس للجيش الفاتح ولفقراء المسلمين، فلو أن رجلًا فُتحت له الدنيا على مصراعيها لآثر شهوة المال وطعم الثراء، لكنه عليه السلام ما ملأت الدنيا عينيه قط، ولو أنها فعلت لأجرى له الله تعالى الأرض ذهبًا والجبال فضة، وهو الذي خيِّر بين ملك الدنيا والخلود فيها، وتبليغ الرسالة، فآثر أن يكون عبدًا رسولًا.
امتدادات زهد النبي صلى الله عليه وسلم:
لا يخفى علينا ما خلفه زهد الرسول عليه السلام من أثر في نفوس من حوله، وهو المعلم الحاذق الذي امتلك من مهارات التربية والتعليم ما يقف اللبُّ أمامه حائرًا منبهرًا، فقد اتخذ المثل نموذجًا راقيًا لتعليم الصحابة والتلقين بالقول الناصح أسلوبًا هادئًا وأنيقًا، والاحتذاء بشخصه الكريم نمطًا واقعيًّا تشهد له العيون، فقد كان يعلم أن الله تعالى سينصرهم نصرًا عزيزًا، ويدين لهم الأمصار والأقطار فربَّاهم على التعفف والتقلل من مباهج الحياة؛ حتى لا تفتنهم ملذاتها، وأرسى في نفوسهم حب الكفاف والقناعة بالقليل، لذلك كان كثيرًا ما يدفعهم إلى البذل والعطاء حتى ترسخ فيهم هذا الحب وكيف لا يتجذر في نفوسهم وقد كانوا يرون نبيهم أجود من الريح المرسلة؟
لقد تمكن النبي عليه السلام من تغيير معالم وطباع النفوس التي سما بها إلى أعلى المراتب، وهو أمر لا محالة يستحيل على أي كان، لذلك فهو أمرٌ يتسم بالإعجاز؛ مما يدل على تأييد الله تعالى لنبيه الكريم الذي استلهم القيم الربانية استلهامًا دل على فَهمه الدقيق لأبعادها وآفاقها، لذلك نودُّ في هذا السياق أن نجلي بعضًا من آثار زهد النبي على من كانوا حوله من أزواج وصحابة بما يكفي من الإيضاح بيانًا لهذه البصمات الجميلة التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم وراءه، وإن كان الحديث في هذا الباب طويلًا متشعب الجوانب فسنقصر كلامنا على بعض من هاته الآثار على الشكل التالي:
آثار زهد الرسول صلى الله عليه وسلم على آل بيته:
كان لزهد النبي عليه السلام أبلغ الأثر في نفوس زوجاته رضوان الله عليهن، فقد كان منهاجه في الزهد حاضرًا معهن بعد مماته صلى الله عليه وسلم، فلم ينظرن إلى مباهج الدنيا ولا زينتها لرحيل النبي عليه السلام مطلقًا، بل كان الاستمرار على مبدأ الكفاف والشظف والقناعة منهجًا عمليًّا سلكنه في الحياة، فقد روي عن هشام بن عروة عن أبيه: أن معاوية بن أبي سفيان بعث إلى عائشة رضي الله عنها بمائة ألف، فقسمتها حتى لم تترك منها شيئًا، فقالت بريرة: أنت صائمة، فهلا ابتعت لنا بدرهم لحمًا؟ فقالت عائشة: لو أني ذكرت لفعلت"، وقال ابن سعد: "ما تركت زينب بنت جحش درهمًا ولا دينارًا، وكانت تتصدق بكل ما قدرت عليه وكانت مأوى المساكين، ويذكر أن السيدة صفية رضي الله عنها باعت الدار التي كانت تعيش فيها، وتصدقت بها والقصص والأمثلة من هذا النوع غنية في كتب السير والتاريخ، مما لا يسع المقام لاستعراضها، فحسبنا ما ذكرناه من أدجلة تجزم قطعًا باستمرار زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم في الاقتداء بمنهاجه في الزهد.
آثار زهد الرسول صلى الله عليه وسلم على صحابته رضوان الله عليهم:
ما من شك البتة في أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حملوا راية الزهد تأثرًا بمنهاج نبيهم الذي علمهم أن الدنيا لا تساوي شيئًا عند الله مقابل النعيم الخالد الباقي في الجنان، فما هي إلا جسر يعبر فوقه وشجرة يستظل بظلها راكب، لا يلبث بعد حين من الدهر أن يكون عنها مرتحلًا، منطق ضرب في أعماق قلوبهم جذوره، وأزهرت براعمه زمن البعثة، وأينعت ثماره بعد وفاة النبي، فاتَّخذه معظمهم أسلوبًا في الحياة، فهذا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين يرتدي قميصًا عليه الرقاع، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لقد رأيت بين كتفي عمر أربع رقاع في قميصه؛ (مصنف بن أبي شيبة، "كتاب الزهد ما ذكر في زهد الأنبياء وكلامهم)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية فدعوه، فأبى أن يأكل، وقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير"؛ رواه البخاري 5414.
وعن أنس قال: اشتكى سلمان الفارسي فعاده سعد، فرآه يبكي، فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي، أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس أليس، قال سلمان ما أبكي واحدة من اثنتين، ما أبكي ضَنًّا للدنيا ولا كراهية للآخرةِ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهِد إليَّ عهْدًا فما أراني إلا قد تعَدَّيْتُ قال: وما عهد إليك؟ قال: عهد إليَّ أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب، ولا أَرانِي ألاَّ قدْ تعَدَّيْتُ، وأمَّا أنْت يا سعْدُ فَاتَّقِ اللهَ عِند حُكْمِك إذا حَكَمْتَ، وعنْد قسَمِك إذا قَسَمْت، وعند هَمِّك إذا هَمَمْتَ، قال ثابت: فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهمًا من نفقة كانت عنده؛ (رواه ابن ماجه وصححه الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجه رقم 33757).
إن قصص زهد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة لا حصر لها، ويكفينا ما أوردناه من أسماء وإلا لاحتجنا صفحات في إيراد كل اسم من الأسماء التي اختارت الزهد منهاجًا في الحياة، زهد دل حقيقة على قوة النبي عليه السلام، وصدق منهاجه الذي تفاعل معه كل المحيطين به من قريب أو بعيد، فكان له أوسع الأثر في نفوسهم، فجعلوه سلوكًا يرى في واقع الحياة متأثرين بقدوتهم عليه السلام ومؤثرين فيمن حولهم من الناس، وفي هذا اكتمال لمعجزة النبي الذي صنع جيلًا فريدًا من نوعه، بنى مجتمعًا غاية في التماسك والألفة والانضباط لشرع الله تعالى؛ يقول الدكتور محمد عمارة في مقال له بمجلة المنار الجديد الصادرة في عددها التاسع والعشرين سنة 2007 تحت عنوان رجال عصر النبوة: "ولقد كان من إعجاز مدرسة النبوة في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وفي الروضة الشريفة صناعة الجيل الفريد من الرجال والنساء الذين غيَّروا مضمون الحضارة المدنية والثقافة ووجهة التاريخ"، لقد كان جيلًا متميزًا؛ من حيث الأخلاق الرفيعة المترفعة عن ملذات الدنيا، وزخرفها الزائل، مؤمنين تمام الإيمان بأن الدار الآخرة هي الحيوان والنعيم الخالد، وأن ما دونها لا يساوي شيئًا، فطلقوا الدنيا وعاشوا على الكفاف، زاهدين على نهج معلمهم البارع الذي لقن الدنيا كلها تعاليم لن تستقيم الحضارة، ولن تنجح الحياة إلا بها باعتبارها وحيًا إلهيًّا وهديًا نبويًّا يَمتاح حروفه الرقراقة البراقة من وحي السماء.أىأارلاأا
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
01-02-2023, 07:48 AM
|
#2
|
جزاك الله خير
وأحسن إليك فيما قدمت
دمت برضى الله وإحسانه وفضله
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
01-05-2023, 11:04 AM
|
#3
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 12:08 PM
| | |