أمهات المؤمنين التسع، وحكمة تعددهن بعد الهجرة
العصر المسمى بعصر النور والحقيقة، يجب أن تظهر فيه الحقيقة للعيان، وأن يمحو نورها ظلمة الباطل والارتياب. وقد كثر التساؤل في هذا العصر عن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما الحكمة في جمعه بين تسع نسوة ولم يبح لأحد من أمته مثل هذا العدد؟ ويصمه المشوهون للحقيقة بأنه كان أنانياً أو شهوانياً (برأه الله مما قالوا).
ولو رجعنا إلى التاريخ الصحيح في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين لعلمنا أن التعدد أو الجمع بين التسع لم يكن إلا بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، في السنوات العشر الأخيرة من عمره صلى الله عليه وسلم.
أما في مكة فقد عاش فيها قبل الهجرة ثلاثة وخمسين عاماً لم يجمع في أثنائها بين زوجتين قط، والسيدة خديجة التي كانت أولى أزواجه وأم أولاده - عدا إبراهيم فإنه من مارية القبطية- قد تزوج بها وهي امرأة في الأربعين من عمرها، وهو في الخامسة والعشرين من حياته الشريفة، في نضارة الصبا، وريعان الفتوة، وجمال الطلعة، وكمال الرجولة، وعاشت معه (25) عاماً ثم توفيت وهي عجوز، في الخامسة والستين من عمرها.
قضى حياة الشباب وسن الحاجة إلى النساء مع خديجة المرأة الثيب التي تزيد عليه في السن خمسة عشر عاماً، ولم يتزوج عليها ولا أحب أحداً بعدها أكثر من حبه لها، وكان طول حياته يذكرها، ويكرم صديقاتها ومعارفها، ولما قالت له عائشة: هل كانت إلا عجوزاً أبدلك الله خير منها - تعني نفسها - وكانت تدل بحداثة سنها، وجمالها، وكونها بنت صديقه الأول وصِدِّيقه الأكبر أبي بكر رضي الله عنه قالت: فغضب وقال: لا والله ما أبدلني خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء.
من هذا الشاهد تعلم أن عفته صلى الله عليه وسلم لا نظير لها، ولو شاء لتزوج بحسان الأبكار، ولو شاء لتزوج عليها كما كان يفعل غيره، لاسيما أن تعدد النساء كان في الجاهلية شائعاً جداً، وليس له حد معين، ولكنه عف ضميره ولم يمد عينه إلى زهرة الحياة وزينتها.
أما باقي أزواجه صلى الله عليه وسلم فخمس من قريش وهن عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أمية، وأما الأربع الباقيات فهن صفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، رضي الله عنهن وليس فيهن كلهن بكر إلا عائشة.
والحكمة في تزوجه صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة ببضع نسوة في بضع سنين هو العناية بإصلاح البيوت، وتهذيب النفوس، ونشر الفضيلة، وأن تكون أزواجه قدوة حسنة لجميع النساء في تلقي العلم والحكمة، والبر والرحمة، والتقوى والعبادة، والتربية والتعليم، وإليك البيان:
(1) جعل الله تعالى من بيوت نساء النبي صلى الله عليه وسلم مدارس داخلية يتعلمن فيها الدين: عقائده وعباداته ومعاملاته وأخلاقه لاسيما ما يختص منه بالنساء فقال تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33].
فالقرار في البيوت من أجل أن يتعلمن ما يحتجن إليه وما يعظن به النساء والرجال، ولهذا قال: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ﴾ [الأحزاب: 34]، وآيات الله: براهينه وكتابه، والحكمة: سنة نبيه صلى الله عليه وسلم المبينة ما نـزل إليه من ربه، وإنما نهى عن التبرج الجاهلي لأن المتبرجات المتهتكات، الكاسيات العاريات، المائلات المميلات لا يأتي منهن معلمات ولا مربيات، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم إنما وجدن عند النبي لتربية الأمة وتعليمها، وإرشادها وإسعادها.
(2) لما طلبن منه التوسع في الطيبات، وملابس الزينة، والترف في المعيشة، نـزلت في حقهن آيتا التخيير وهما قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28، 29]، لما نزلت هاتان الآيتان بدأ صلى الله عليه وسلم بعائشة -وكانت أحبهن إليه، كما كان أبوها أعز الرجال عليه - فقال: يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك، قالت: وما هو يا رسول الله، فتلا عليها الآية قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟! بلى أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خيرهن كلهن فاخترن ما هو خير لهن، اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
(3) أراد نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقمن حيث أقامهن الله ورسوله صالحات قانتات، مربيات ومعلمات، مرشدات ومفتيات، فاخترن الدار الآخرة ونعيمها الدائم ورضوان الله الأكبر، على حظوظهن من هذه الحياة الدنيا وزينتها ومتعها ومفاتنها فأثابهن الله كرامة لهن وجزاء على ما اخترن ورضين بأن قصر نبيه صلى الله عليه وسلم عليهن دون أن يتزوج أو يطلق أو يستبدل بهن غيرهن، فقال عز شأنه: ﴿ لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ﴾ [الأحزاب: 52]، والحكمة في تحريم تطليقهن هو استدامة سماعهن ما يتلى في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم من آيات الله والحكمة، وذكر ذلك ونشره بين الناس لا سيما نساء الصحابة رضي الله عنهم، وأية فائدة ترجى لهن أو لغيرهن من طلاقهن وهن أمهات المؤمنين تعظيماً وتحريماً على الرجال كالأمهات، فأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قصر على أزواجه الطاهرات، وحرم عليه أن يمد عينيه إلى غيرهن بالزيادة أو التبدل بخلاف رجال أمته الذين أبيح لهم التعدد بشروطه وكذا التطليق وأن يستبدلوا بأزواجهم غيرهن، إذن فقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم على دائرة ضيقة من الأزواج، وكانت الأمة في دائرة أوسع منها، أهذا هو الذي يسمونه تمتعاً بالنساء أو الأزواج؟!
نساء كلهن ثيبات (عدا السيدة عائشة) ومنهن من لها أولاد، تزوجهن صلوات الله عليه وسلامه في سن الكهولة أو الشيخوخة، وحين الحاجة إلى التبليغ والتعليم، وربما كان التزوج بهن كلهن قبل نزول آية التحديد بأربع نسوة، فهي قد نـزلت في نحو السنة الثامنة من الهجرة، وكان تزوجه بآخرهن وهي ميمونة بنت الحارث الهلالية في أواخر سنة سبع منها، وحرم عليه تطليقهن لأنهن قد اخترن ما عند الله على زهرة الحياة الدنيا وزينتها، على أنهن قد صرن أمهات المؤمنين فما الفائدة من طلاقهن وهن حرام على الرجال؟ أو ليست الحكمة في بقائهن عند هذا الزوج الكريم، والرسول العظيم متعلمات ومعلمات، ومُثلاً عليا في البر والتقوى وسائر الصالحات؟ بلى ثم بلى! ويا قاتَل الله الجهل والإغراض.
قال السيد الإمام في كتابه (حقوق النساء في الإسلام):
إنه (صلى الله عليه وسلم) راعى المصلحة في اختيار كل زوج من أزواجه عليهن الرضوان في التشريع والتأديب، والمودة والتأليف، وكفالة الأرامل والأيتام، فجذب إليه كبار القبائل بمصاهرتهم، وعلم أتباعه احترام النساء، وإكرام كرائمهن والعدل بينهن، وقرر الأحكام بذلك، وترك من بعده تسع أمهات للمؤمنين يعلمن نساءهم من الأحكام ما يليق بهن، مما ينبغي أن يتعلمنه من النساء دون الرجال، ولو ترك واحدة فقط لما كانت تغني في الأمة غناء التسع.
ولو كان (صلى الله عليه وسلم) أراد بتعدد الأزواج ما يريده الملوك والأمراء من التمتع في الحلال فقط لاختار حسان الأبكار على أولئك الثيبات المكتهلات منهن كما قال لمن استشاره في التزوج بامرأة ثيب: «هلاَّ بكراً تلاعبها وتلاعبك» وفي رواية زيادة: «وتضاحكها وتضاحكك» وهو حديث جابر في الصحيحين.
وأذكر القارئ بأن تعدد الزوجات في ذلك العصر كان من الضروريات لكثرة القتلى من الرجال وحاجة نسائهم إلى من يكفلهن لأن أكثر أهلهن من المشركين، فالمصلحة فيه للنساء لا للرجال، إما بالكفالة والنفقة، وإما بالشرف والتكرمة، ولذلك كن يسعين أو يسعى الآباء أو غيرهن من الأقربين لمن يقتل زوجها أو يموت بكفؤ يتزوجها وإن كان له زوج أو أزواج غيرها، كما فعل عمر بعرض بنته حفصة على أبي بكر وعثمان. فهل يتصور عاقل أن تعدد الزوجات كان في ذلك العهد هضماً لحقوقهن، وقد أعطاهن الإسلام من الحقوق والتكريم ما أعطاهن؟ وناهيك بشرف التزوج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ا.هـ.
المصدر: مجلة التمدن الإسلامي، السنة ا، العدد الثالث، 1356هـ - 1937م
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|