أحداث ما قبل معركة بدر الكبرى: طلب القافلة
لقد كانت معركة بدر بالإضافة إلى كونها المعركة الفاصلة الأولى في تاريخ الإسلام، أول مراحل الكفاح الدامي الذي خاضه الإسلام ضد الشرك، فهي أول معركة (على الإطلاق) يتقابل فيها الفريقان، ويقذفون في عرصاتها بكتائب لم يسبق أن قذفوا بمثلها منذ ظهرت دعوة الإسلام، ونشبت الخصومة بينه وبين الكفر.
سبب الخروج:
تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن عيراً لقريش خرجت إلى الشام للتجارة، فخرج إليها، وكان لواؤه مع حمزة بن عبد المطلب، حتى وصل إلى العشيرة من بطن ينبع، فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، ووادع فيها بني مدلج، وحلفائهم من بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً[1].
ولما تحين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصراف العير من الشام، ندب أصحابه للعير، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد، قبل خروجه من المدينة بعشر ليال، يتحسسان[2] خبر العير، حتى نزلا على كَشَد الجهني بالنّخبار من الحوراء - والنّخبار من وراء ذي المروة على الساحل - فأجارهما، وأنزلهما، ولم يزالا مقيمين عنده في خباء حتى مرت العير، فرفع طلحة وسعيد على نشز من الأرض، فنظرا إلى القوم، وإلى ما تحمل العير، وجعل أهل العير يقولون: يا كشد هل رأيت أحداً من عيون محمد؟ فيقول: أعوذ بالله، وأنى عيون محمد بالنّخبار؟ فلما راحت العير باتا حتى أصبحا، ثم خرجا، وخرج معهما كشد خفيراً، حتى أوردهما ذا المروة. وساحلت العير فأسرعت، وساروا الليل والنهار فرقاً من الطلب. فقدم طلحة بن عبيد الله وسعيد المدينة اليوم الذي لاقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر، فخرجا يعترضان النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلقياه بتُربان[3]- وتربان بين ملل[4]والسيالة[5] على المحجة، وكانت منزل ابن أذينة الشاعر. وقدم كشد بعد ذلك، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - سعيد وطلحة إجارته إياهما، فحياه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكرمه، وقال: «ألا أقطع لك ينبع؟»[6] فقال: إني كبير، وقد نفد عمري، ولكن أقطعها لابن أخي، فقطعها له.
وكانت العير ألف بعير، وكانت فيها أموال عظام، ولم يبق بمكة قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعداً إلا بعث به في العير، حتى إن المرأة لتبعث بالشيء التافه، فكان يقال: إن فيها لخمسين ألف دينار، وقالوا أقل، وإن كان ليقال: إن أكثر ما فيها من المال لآل سعيد بن العاص - أبي أحيحة - إما مال لهم، أو مال مع قوم قراض على النصف، فكانت عامة العير لهم، ويقال كان لبني مخزوم فيها مائتا بعير وخمسة أو أربعة آلاف مثقال ذهب، وكان يقال للحارث بن عامر بن نوفل فيها ألف مثقال ذهب، وكان يقال لأمية بن خلف ألفا مثقال.
وكان لبني عبد مناف فيها عشرة آلاف مثقال، وكان متجرهم إلى غزة من أرض الشام، وكانت عيرات بطون قريش فيها - يعني العير[7].
وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يترقب عودة هذه القافلة، فلما بلغه رجوعها ندب الناس إليها، فقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها[8].
وبهذا يعلم سر الاحتياط والحذر الشديد من أبي سفيان قائد القافلة من أنه سبق أن تعرضت قافلته لهجوم المسلمين عند خروجه بها إلى الشام، فكان خوفه عند عودته أشد وأعظم.
تنبيه:
قد يتساءل البعض عن السبب الذي جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين يستحلون الهجوم على عير قريش بقصد الاستيلاء عليها، وما الذي أحل لهم ذلك؟ وقد تقدم الجواب مفصلاً في مبحث أسباب الغزوة، ولكني هنا أريد أن ألفت النظر إلى أمرين:
الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أخرجوا من مكة، واستولى المشركون على أموالهم بغير حق، كما نص الله على ذلك بقوله: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ [الحج: 39-40].
وقال تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8]. فاستعادة المرء لحقه الذي سُلب منه أمر مشروع دينًا وعقلاً وفطرة.
الثاني: أن هذه الأموال أموال الله تعالى، يجب صرفها في طاعته، فبقاؤها في يد من يستعملها في حرب الله ورسوله وعباده المؤمنين لا يجوز إذا ما قدر المسلمون على ذلك. قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|