القوة في الإسلام (2)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، سيد ولد آدم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه الظاهرة والباطنة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
ما زلنا وإياكم مع القوة وعناصر القوة، وقفنا مع العنصر الأول القوة في العقيدة والعنصر الثاني القوة في العبادة، أما العنصر الثالث القوة في الأخلاق والمعاملة، لقد فتحَ المسلمون الأوائِل بعضَ البلدان بقوّةِ الأخلاق دون أن تتحرَّك جيوشٌ أو تزَلزَل عُروش، وبعضُ المسلمين اليومَ جمَع من العلمِ فأوعَى وخلاَ من الخُلُق الأوفى.
القوّةُ في الأخلاق دليلُ رسوخِ الإيمان، فإلقاءُ السلام عبادةٌ، وعِيادة المريض عِبادة، وزِيارة الأخِ في الله عِبادة، وتبسُّمك في وجهِ أخيك عبادة.
عباد الله: من القوّة ثَبات الأخلاقِ ورُسوخ القِيَم في الفرَح والحزن والشِدّة والرخاء، مع الصّديقِ والعدوِّ والغنيِّ والفقير، قال تعالى: ﴿ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أرسل جيشا أو أرسل سرية للغزوَ يوصيهم ويقول لهم: «لا يقتُلوا طِفلًا ولا امرأةً ولا شَيخًا كبيرًا». [رواه أبو داود].
الله أكبر هذا هو عدل الإسلام، هذه هي رحمة الإسلام وأخلاق الإسلام.
المسلم عباد الله قويٌ في أخلاقه ومعاملاته وبيعه وشرائه.
وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- القائل: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما»؛ [رواه البخاري أنظر الفتح 4/ 328].
لقد فعَل مشرِكوا مكّةَ برسولِ الله ما فعلوا، آذَوه وحاصَروه، واتَّهموه وكذَّبوه، أخرجوه ثم شهَروا سيوفَهم ليقتلوه. وتمرّ السّنون، ويعود رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكّةَ فاتحًا متواضِعًا لله متذلِّلًا، ويقول لأولئكَ الذين فعَلوا ما فعلوا: «ما تظنّون أني فاعلٌ بكم؟ » قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطّلَقاء» [السيرة النبوية لابن هشام (4/ 78)]، «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير».
إنّه انتصارِ المبادِئ ورسوخُ القِيَم والقوّة في الأخلاق، وحاشا رسولَ الله أن ينتقِمَ لنفسِه أو يثأرَ لشخصِه، وفي الحديث: «وما انتقَمَ رسول الله لنفسِهِ إلاّ أن تنتَهَك حرمةُ الله فينتقمَ لله بها». [رواه البخاري]. وفي عالمنا اليومَ من تنتفِخ أوداجُه وتحمرّ عيناه ويصيبه الأرَق والقلَق ولا يهدَأ روعُه حتى يثأرَ لنفسِه وينتقِمَ لشخصِه المبجَّل، لكنّه لا يحرِّك ساكنًا ولا يشعُر قلبه امتِعاضًا إذا انتُهِكت محارمُ الله.
عباد الله:
القوة ليست في الظلم والتجبر على الضعفاء.
القوة ليست في البغي والطغيان.
القوة أن تعفوا عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك.
رابعًا: ومن عناصر القوة: القوّةُ في الإرادَةِ بمغالبة الهوَى والاستعلاءِ على الشهوات، قال تعالى: ﴿ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26]. وفي سيرةِ نوحٍ عليه السلام ترى قوّةَ العزيمة والإرادَةِ وهو يسير في دعوتِه ليلًا ونهارًا، سِرًّا وجهارًا، يمرّ عليه قومُه وهو يصنَع السفينة، فيُلقُون على سمعه عباراتِ التهكّم والسّخريةِ، فلم تهن عزيمتُه ولم تضعُف إرادَته؛ لأنه كان واثِقًا بنَصر الله، مطمئنًّا إلى وعدِه سبحانه، ﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾[هود: 38].
القوة في الاستعلاء على الشهوات، فالمؤمن قوي لأنه عبد لله وحده أما عبيد الدينار والدرهم فهم ضعفاء. أما عبيد النساء والشهوات فهم ضعفاء.
كم من قوي الجسم مفتول العضلات يضعف أمام امرأة ويُضيّع دينه وخلقه.
كم من مسلمين اليوم يضعفون أما مبلغ من المال؛ فيضيّعون دينهم بعرَضٍ من الدنيا قليل.
كم نرى من يضعف أما الصور والأفلام حتى أصبح الواحد منهم متعلق بها حتى وهو ساجد بين يدي الله يأتي الشيطان ويفتح دفتر الصور والأفلام القبيحة فيُضيّع على المسلم صلاته وخشوعه والله المستعان.
عباد الله:
الذلُّ قبيح، وفي قَبوله هَلاك، ولكن حينَ يوضَعُ في موضِعِه الصحيحِ يُعتَبر قوّةً وعِزًّا.
الذل والانكسار بين يدي الله مصدر العزة والكرامة والذل للوالدين وطاعتهما قال تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24].
العنصر الخامس من عناصر القوة: القوّة في ضبطِ النفسِ والسّيطرة عليها، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ليس الشّديدُ بالصّرعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسَه عند الغضب»؛ [رواه البخاري]، كظمُ الغيظِ قوّةٌ، قال تعالى: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 134].
وقد قال بعض أهل العلم في هذا الباب: إن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو، وإذا ملك الإنسان نفسه فقد قسر شيطانه.
ولهذا كان من أعظم المصائب الهدّامة العجز، والكسل، والجبن، والبخل، إنها صورٌ من صور الضعف والخور، وقد استعاذ منها جميعًا نبيكم محمد في دعاءٍ رفعه إلى مولاه، قائلًا: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» [رواه أبو داود في أبواب الوتر، باب الاستعاذة (4/ 412)]. إنها كلها تصب في مصاب الضعف، والانهزام النفسي والعملي.
أما استعادة الأحزان، والتحسر على ما فات، والتعلق بالماضي، وتكرار التمني بـ (ليت) والتحسر في الزفرات بـ (لو) فليس من خُلق المؤمن القوي؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، وما عمله إلا الهواجس، والوساوس، فهو الوسواس الخناس. فلا التفات إلى الماضي إلا بقدر ما ينفع الحاضر ويفيد المستقبل.
عباد الله أهل الإيمان والصلاح والتقوى من الصحابة والتابعين كانت عظمتهم وقوتهم وعزتهم يوم اتصلوا بالواحد الأحد، بالقوي العزيز وعرفوا الله عز وجل، فاستمدوا القوة والعزة من اتصالهم وتعلقهم بالله عزوجل.
دخل سليمان بن عبد الملك الحرم، ومعه الوزراء، والأمراء، والحاشية، والجيش، فقال: مَن عالم مكة؟ قالوا: عطاء بن أبي رباح، قال: أروني عطاء هذا، فأشرف عليه، فوجده عبدًا، كأن رأسه زبيبة مشلولًا نصفه، أزرق العينين، مفلفل الشعر، لا يملك من الدنيا درهمًا ولا دينارًا، فقال سليمان: أأنت عطاء بن أبي رباح الذي طوّق ذكرك الدنيا؟ قال: يقولون ذلك، قال بماذا حصلت على هذا العلم، قال: بترك فراشي في المسجد الحرام ثلاثين سنة، ما خرجت منه، حتى تعلمت العلم، قال سليمان: يا أيها الحجاج لا يفتي في المناسك إلا عطاء.
وحدث أن اختلف سليمان وأبناؤه في مسألة من مسائل الحج، فقال: دلوني على عطاء بن أبي رباح، فأخذوه إلى عطاء وهو في الحرم، والناس عليه كالغمام، فأراد أن يجتاز الصفوف، ويتقدم إليه وهو الخليفة، فقال عطاء: يا أمير المؤمنين، خذ مكانك، ولا تتقدم الناس؛ فإن الناس سبقوك إلى هذا المكان، فلما أتى دوره سأله المسألة فأجابه، فقال سليمان لأبنائه: يا أبنائي، عليكم بتقوى الله، والتفقه في الدين، فو الله ما ذللت في حياتي إلا لهذا العبد. لأن الله يرفع من يشاء بطاعته، وإن كان عبدًا حبشيًّا، لا مال ولا نسب، ويذل من يشاء بمعصيته، وإن كان ذا نسب وشرف.
جاء هشام بن عبد الملك الخليفة، أخو سليمان، فحج البيت الحرام، فلما كان في الطواف، رأى سالم بن عبد الله بن عمر، الزاهد العالم العارف، وهو يطوف، وحذاؤه في يديه، وعليه عمامة وثياب، لا تساوي ثلاثة عشر درهمًا، فقال له هشام: يا سالم: أتريد حاجة أقضيها لك اليوم، قال سالم: أما تستحي من الله، تعرض عليَّ الحوائج، وأنا في بيت من لا يُعْوِزُني إلى غيره، فاحمر وجه الخليفة، فلما خرج من الحرم، قال: هل تريد شيئًا؟ قال: أمِن حوائج الدنيا، أم من حوائج الآخرة؟ قال: أما حوائج الآخرة فلا أملكها، لكن من حوائج الدنيا، قال سالم: والله الذي لا. إله إلا هو، ما سألت حوائج الدنيا مِن الذي يملكها تبارك وتعالى، فكيف أسألها منك؟!.
إنها القوة من وسائل طلبا للاستغفار، وقد قال هود عليه السلام لقومه آمرًا لهم بالاستغفار والبعد عن مزالق الخاطئين: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 52].
القوة في البدن: إن تحصيلُ القوّةِ البدنيّة من أهدافِ الشارع الكريم، وفي سبيلِها كان تحريمُ الخبائث من الطّعام والشراب، كالخمرِ والميتة ولحمِ الخنزير، وفي سبيلها كانت عِناية الإسلام برياضةِ البدَن، ومن أجلِ العافية حثَّ الإسلام على التداوِي وأمر بابتغاءِ العِلاج، قال -صلى الله عليه وسلم-: «تداووا فإنَّ الله لم يضَع داءً إلاّ وضع له شفاءً ـ أو قال: دواءً ـ إلاّ داءً واحدًا»، قالوا: يا رسول الله، وما هو؟ قال: «الهرَم»؛ [رواه الترمذي]. وقد صارَع رسول الله رُكانةَ فصَرَعه وكان ذلك سببًا في إسلام رُكانة؛ [أخرجه أبو داود في كتاب اللباس (4078)، والترمذي في أبواب اللباس]، وثبَتَ أنه -صلى الله عليه وسلم- رمَى بالقوسِ وطَعَن بالرّمح وتقلَّد السيفَ وركِب الخيل. كلُّ ذلك لتُسخَّر هذِه الأجسامُ في طاعةِ الله وتُشغَل بالخيرِ وتُبعَد عن كلِّ ما هو محرَّم.
ونهانا الإسلام عما يضر البدن ومن ذلك شرب الدخان فقد أجمع الأطباء على أنها سبب رئيس لمرض السرطان، وأفتى العلماء بحرمتها.
ومن ذلك الإكثار شُرب المنبهات التي تغير طبيعة الإنسان وتؤثر في قلبه، ولقد غُلّفت بأسماء جذابة مثل مشروبات الطاقة أو قوة الجبال.
فيا عبد الله لا تتحكم فيك شهواتك وعاداتك لتكن قويًا بطاعتك لله.
ومع قوّةِ الإيمان والأخلاقِ والجِسم يأتي العنصر الثالث القوّةُ في العلم والمعارِفِ والمِهَن، فالله ما أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يطلب الزيادة في المال أو الجاه أو السلطان بل يطلب الزيادة في العم وقل ربي زدني علما.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا وأستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، السميع العليم، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان عليهم من ربهم الرحمة والتسليم، وبعد:
عباد الله:
ومن عناصر القوة: القوةُ في العلم والجدِّ في مباشرةِ العمَل، وذلك باطِّراح الكَسَل جانِبًا والخمول ظِهرِيًّا، ذلك العمَل الذي ينمِّي الإنتاجَ ويزيد الثّروَة ويحفظ كراماتِ الأفراد ويصِل بالأمة إلى غايتِها من السّيادَةِ والقيادة.
وهناك أقوامٌ يقولون بأنّ التديّنَ من أسباب التخلُّف وأنّ الشريعةَ عامِل من عوامِلِ التأخُّر، وهذا جهلٌ بالدين وغَفلَة عن تعاليمه، ولقد كان رسولُ الله يستعيذ من كلِّ أسباب ومظاهرِ الضّعف فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجزِ والكسَل» [رواه البخاري].
ومن عناصر القوة ـ أيها الناس ـ قوّة العدة والعتاد والتدريب على فنون الجهاد باللسان والمال والعتاد والأنفس والتدرب على السلاح والرماية بالطرق المشروعة، وبذلك نرضي الرب تبارك وتعالى، ونذُبُّ عن ديننا، ونحمي أنفسنا وأهلينا وديارنا، وبذلك نضمن العز والنصر في معركة الحق مع الباطل، قال تعالى: ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾[الحج: 40]، وعن عقبة بن عامر -ا- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر يقول: «وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي»[رواه مسلم في القدر، باب: في الأمر بالقوة وترك العجز (2664). ]. والرمي يشمل كل رمي في كل زمان ومكان بحسبه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أطلق الرمي ولم يعين ما يرمى به، فيتحرك المسلم حسب ما يقتضيه الحال والمكان.
فاتقوا الله عباد الله، وامتثلوا لأمر الله ورسوله بإعداد القوة اللازمة لرد كيد أعداء الإسلام في نحورهم، ولتعلموا أن الإسلام ليس ترفًا ورخاوة أو لذة أو جمعًا لحطام الدنيا، وإنما الإسلام دين ودولة ومصحف وسيف ومحراب وميدان للجهاد في سبيل الله بكل وسائل القوة بعد التوكل والاعتماد على الله جل وعلا وإخلاص النية لله رب العالمين.
ومن عناصر القوة ـ أيها المسلمون ـ أن يكون المسلم صريحًا جريئًا يواجه الناس بقلبٍ مفتوح ومبادئ واضحة، فلا يُصانع ويُجامل على حساب الحق بما يغضّ من كرامته وكرامة إخوانه المسلمين، فلا يوهن فيهم ولا يفتُّ في عضدهم ولا يهين كرامتهم ولا يحطم معنوياتهم، ولا يحطّ من قدرهم، ولا يحيد عن هذه الصراحة أبدًا، فقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنبثق من هذا المبدأ، فعلى المسلم أن لا يتهيب كبيرًا، ولا يستحي من قريب أو بعيد ولا تأخذه في الله لومة لائم.
ولذلك كره الإسلام أن يضعف الإنسان أمام العُصاة من الكبراء فيناديهم بألفاظ التكريم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا قال الرجل للمنافق: يا سيد فقد أغضب ربه» [ أخرجه الحاكم (4/ 311) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/ 198) والبيهقي في "الشعب" (4854) والخطيب في "التاريخ" (5/ 454)وقال الحاكم: صحيح الإسناد"].
حج الحجّاج بن يوسف الثقفي مرة فمر بين مكة والمدينة فأُتي بغدائه فقال لحاجبه: انظر من يأكل معي، فذهب فإذا أعرابي نائم فضربه برجله وقال: أجب الأمير، فقام فلما دخل على الحجاج قال له: اغسل يديك ثم تغد معي، فقال: إنه دعاني من هو خير منك، قال: ومن؟ قال الله دعاني إلى الصوم فأجبته، قال: في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم صمت ليوم هو أشد حرًا منه، قال: فأفطر وصم غدا، قال: إن ضمنت لي البقاء لغد.
قال: ليس ذلك لي، قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل لا تقدر عليه؟ قال: إن طعامنا طعام طيب، قال: لم تطيبه أنت ولا الطباخ، إنما طيبته العافية.
فمن الجريمة ـ عباد الله ـ أن تُنتهك حرمات الإسلام ثم لا يجد من ينتهكها من يحقِّره، بل يجد من يمتدحه ويبجله، قال الله تعالى: ﴿ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ﴾ [الحج: 18].
فاتقوا الله عباد الله، وخذوا بكل أسباب القوة لتتحقق لكم الحياة الطيبة العزيزة الكريمة في الدنيا وفي الآخرة.
عباد الله:
إنّه ينبغي أن لا يَنسَى العبد ربَّه مع مباشرةِ هذه الأسباب، فإنّ العوائقَ جمّة، والحاجة إلى عونِ الله وتوفيقِه في كلِّ لحظةٍ وآن، وفي محكمِ التنزيل: ﴿ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ ﴾، قال عز وجل في دعاء نوحٍ بعد أن كذّبه قومه وبذلَ جميع الأسباب: ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴾[القمر: 10]، وقال تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام في وصيّته لقومه بعد أن هدَّدَهم فرعونُ بقتلِ أولادهم: ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾[الأعراف: 128]، وقال أيضًا عن وصية أخرى من موسَى لقومه: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾[يونس: 84]، وقال تعالى عن يوسفَ عليه الصلاة والسلام عندما تعرَّض لفتنةِ النساء: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾[يوسف: 34].
من الفوائدِ المستنبَطَة من سورةِ يوسفَ عند هذه الآية ـ كما قال بعض العلماء ـ أنه ينبغي للعبدِ أن يلتجِئ إلى الله عند وجود أسباب المعصيَة ويتبرّأ من حولِه وقوّته؛ لقول يوسف عليه السلام: ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33] أي: إن وكلتني إلى نفسي فليس لي من نفسي قدرةٌ، ولا أملِكُ لها ضرًّا ولا نفعًا إلا بحولِك وقوّتك، أنت المستعان، وعليك التّكلان، فلا تكلني إلى نفسي.
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|