الشجاعة:
امتلأت هذه الغزوة بمَشاهدَ عجيبة للشجاعة، ولن أختار هنا مواقفَ الفُرسان والأبطال العِظام المَغاوير، وهي مواقف لا ينقضي منها العجبُ، ولكني سأتحدَّث عن شجاعة مَن يُفترَض فيهم أنهم من المستضعفين الذين لا يَملِكون أهليةَ القتال، ولا يُنتظَر منهم أن يُقاتِلوا.
المشهد الأول: كان في أول الغزوة؛ حيث استَعرَض رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيشَ، وكان قد خرج مع الرجال غِلْمان لا طاقة لهم بالجهاد؛ رغبةً منهم في نُصْرة الحق، وطمعًا في الشهادة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّهم لصِغَرهم، ومنهم: عبدالله بن عمر، والبراء بن عازب، وأسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، وعرابة بن أوس، وكان منهم أيضًا رافع بن خَديج.
ولكن قيل له: إن رافعًا يُجيد الرَّمي، فأجازه، ثم قيل له: إن سمرة بن جندب يَغلِب رافعًا إذا صارَعه، فأجاز سمرة أيضًا، وكانا في الخامسة عشرة من عمرهما[1].
ولنا أن نُشيد هنا بشجاعة هؤلاء الغِلْمان، وحِرْصهم على المشاركة في القتال، وتعريض أنفسهم للموت والهلاك بالرغم من صِغَرهم، ولا غَرْو أن المشاركة في ساحات الوغى ليس بالأمر الهين؛ فقد كان أمرًا يَهابه الكبار ممن اشتدَّ عُودُهم، وقوي ساعِدُهم.
ثم يجب أن نتوقَّف كثيرًا أمام موقف النبي صلى الله عليه وسلم ورِفْقه ورحمته برعيته، وإصراره على استعراض الجيش بنفسه ليَردَّ مَن يرى أنه ليس أهلاً للقتال؛ شفقة ورأفة بهم، ولا يُجيزهم إلا بوساطة وشفاعة وتزكية تؤكِّد له أن لهم قدرة على المشاركة في القتال، وكان الأصل أن يردَّ كلَّ مَن يَشُكُّ في قدرته على القتال.
المشهد الثاني: كان في نهاية الغزوة، وصاحبته هي أم عمارة، نَسيبة بنت كعب المازنية، ولندع المجال لها لتحكي بنفسها ذاك الموقف.
قالت نَسيبة: "خرجتُ أول النهار، وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه، والدولة والرِّبح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون، انحزتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمتُ أُباشِر القتال، وأذبُّ بالسيف، وأرمي عن القوس، حتى خلَصتِ الجراح إليَّ"[2].
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عنها: "ما التفتُّ يوم أحُدٍ يَمينًا ولا شمالاً، إلا وأراها تُقاتِل دوني"[3].
وإن الإنسان ليدهَش ويتعجَّب أشدَّ العجبِ من هذه الشَّجاعة النَّادرة، والبطولة التي لا مثيل لها، من امرأة ضعيفة قد فاقت كثيرًا من الرجال في شجاعتها.
الحِلْم والعفو والرحمة:
ومن مواقف الحِلْم والرحمة في هذه الغزوة:
مرَّ جيش المسلمين في أثناء سيره ببستانِ رجل كافر أعمى يُدْعى مِرْبَع بن قيظي، فلما سمع حِسَّ الجيش، قال: لا أُحِلُّ لك إن كنت نبيًّا أن تَمُر في حائطي، وأخذ في يده حَفْنة من تراب ثم قال: لو أعلم ألا أصيب بها غيرك لرميتُ بها وجهك، وأساء الأدبَ مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فابتدره القوم ليَقتُلوه ويؤدِّبوه؛ عقابًا له على سوء أدبه مع خير الخَلْق صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحِلْم وعفو ورحمة أمَرهم أن يتركوه ولا يَمَسُّوه بسوء، قائلاً لهم: ((دَعوه؛ فإنه أعمى القلب، أعمى البصر))[4].
كما عَلِمْنا، فقد خلَص المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجرحوا وجهَه، وكسروا رَباعِيتَه، وهشَّموا البيضة على رأسه، ورَمَوه بالحجارة، ونشِبتْ حلقتان من المِغْفَر في وجهه، وسال الدمُ من وَجْنته.
وأخذت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدمَ عن وجهه، فكان الدم يزيد، حتى أخذت قطعةً من الحصير فأحرقتها وألصقتها بالجراح، فاستمسك الدم[5].
ثم إننا لنعجبُ أن نرى إزاء هذا الإيذاء الظالم، والتعدي الفاحش - إحسانًا وفضلاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يَمسَح الدمَ عن وجهه قائلاً: ((اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون)).
قال أبو حاتم: يعني هذا الدعاء أنه قال يوم أحد لما شُجَّ وجهه: ((اللهم اغفر لقومي)) ذنبَهم بي من الشجِّ لوجهي[6].
قال أبو بكر الجزائري: "مظاهر رحمة الحبيب صلى الله عليه وسلم تجلَّت في عفْوِه عن الأعمى الذي سبَّه ونال منه، حتى همَّ أصحابه بقتلِه، فأبى عليهم، وقال: ((دعوه؛ فإنه أعمى القلب، أعمى البصر)).
وفي قوله وهو يُجفِّف الدم عن وجهه الكريم الشريف: ((اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون))"[7].