أثر الصلح على الدعوة الإسلامية وانتشارها (2)
5- انشقاق معسكر الشرك وتوهنه:
من الآثار التي صاحبت الصلح، الانشقاق الذي حدث داخل معسكر الشرك، بين قريش وحلفائها، وذلك لما رأوا ظلم قريش وتعديها، وصدها عن بيت الله، حتى أن زعيم الأحابيش يهددها بإلغاء الحلف الذي بينها وبينه، وينسحب برجاله إذا لم تصغ قريش لصوت الحق، وتخلي بين المسلمين وبين البيت ليطوفوا به، فهذا الانشقاق كان عامل ضعف في جانب القرشيين، بقدر ما كان عامل تقوية وتدعيم لمركز المسلمين[1].
كما تسبب الصلح في انفراط عقد الكفار في الجزيرة، فإن قريشا كانت تعتبر رأس الكفر، وحاملة لواء التمرد والتحدي للدين الجديد، وعندما شاع نبأ تعاهدها مع المسلمين، خمدت فتن المنافقين الذين يعملون لها[2].
وقد نزل القرآن بتبكيتهم وتهديدهم بالعذاب، بما فتح الله لرسوله من نصره على مشركي قريش[3]، قال تعالى ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾[4].
وعلم أعداء الدين أن الغلبة للإسلام فأصابهم الوهن، وتشتت جهودهم في محاربة للمسلمين، فلم يعد هناك تحالفات وتحزبات كبيرة ضدهم.
6- الاتجاه بالدعوة إلى ميادين جديدة:
انطلقت الدعوة الإسلامية في فترة الهدنة تطرق أبوابًا وميادين لم يسبق للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن طرقوها من قبل، فقد اغتنم النبي صلى الله عليه وسلم فترة الصلح والأمان، فأرسل رسله إلى أماكن مختلفة، داخل الجزيرة العربية وخارجها، مثبتًا بذلك أن دعوة الإسلام دعوة عالمية، لا يقف دونها جنس أو لون، بل هي للناس كافة، حيث أرسل إلى الملوك والأمراء في كل الأرض يدعوهم إلى الإسلام ويحملهم إثم أتباعهم إن لم يبلغوهم[5].
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى)[6]، وقد اختلف تأثر واستجابة الملوك والأمراء مع هؤلاء الرسل[7]، ورغم إعراض بعضهم، فقد كان وصول خبر الدعوة الإسلامية تمهيدا لنشرها في تلك البقاع، وتوطئة للفتوح الإسلامية.
7- القضاء على أعداء الدولة الإسلامية:
اغتنم النبي صلى الله عليه وسلم فترة الهدنة مع قريش للمبادرة والمسارعة إلى الخروج إلى خيبر[8]، حيث يتمركز اليهود ألدّ أعداء المسلمين في الجهة الشمالية، والذين طالما كانوا حربًا على المسلمين وخططوا للكيد للدعوة، وحرَّضوا قريشًا ضد المسلمين، وكان الله تعالى قد بشر المسلمين في طريق عودتهم من الحديبية بالفتح وبالغنائم، فقال تعالى: ﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ﴾ [9] قال مجاهد[10] رحمه الله في قوله تعالى: ﴿ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ﴾: يعني فتح خيبر [11].
فصادفت هذه البشارة الوقت المناسب لتحقيق الهدف الذي طالما تاقت نفوس المسلمين إليه، وهو القضاء على اليهود في ذلك البلد[12]، وتحقق موعود الله وفتحت خيبر- كما سيأتي - وبالقضاء على يهود خيبر استراح المسلمون من أخبث عدو كان يقف في وجه الدعوة الإسلامية، منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
8- حفظ المسلمين بمكة والتفريج عن المستضعفين منهم:
بعد أن بايع المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وثارت نفوسهم وحميت لقتال المشركين، منع الله وقوع القتال، وكف أيدي الناس بعضهم عن بعض، لحكمةٍ بينها تعالى في قوله: ﴿ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾[13].
قال الحافظ ابن كثير[14] رحمه الله:
وقوله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات: أي بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه، ويخفيه منهم خيفة على أنفسهم من قومهم، لكنَّا سلطناكم عليهم، فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم، لكن يشاء الله أن يؤخر عقوبتهم ليتخلص من بين أظهرهم المؤمنون، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام[15].
ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسوةٌ مؤمنات، انتهزن فرصة الصلح وفرَرْن من مكة إلى المدينة، فلحق بهنَّ المشركون ليرجعوهن، تنفيذًا للشرط الذي بينهم وبين المسلمين، فأنزل الله قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ... ﴾ [16]، فلم يردهن رسول الله صلى الله عليه وسلم[17].
ويعد هذا مكسبًا عظيمًا للمؤمنات، إذ استثناهن الله تعالى من هذا الشرط، فلا يرجعن إلى الكفار ليفتنوهنَّ في دينهنَّ وقد علم الله تعالى حالهنَّ وضعفهنَّ، بل يعشنَ في كنف الدولة الإسلامية في المدينة.
أما الرجال فقد ردهم النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: أنه جاءه أبو جندل رضي الله عنه، (فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة، وإن كان مسلما)[18]، وعلى الرغم مما يبدو من شدة وقسوة في هذا الشرط، إلا أنه كان من ورائه فرج ومخرج للمسلمين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد حدث أن جاء أبو بصير[19] رضي الله عنه، فارا بدينه من المشركين إلى المدينة، وأرسلت قريش تطلبه، فأرجعه النبي صلى الله عليه وسلم وفاء بالعهد الذي بينه وبين المشركين، فتمكن من الخلاص وكوَّن جماعة مؤمنة مجاهدة، تهاجم قوافل المشركين وتجارتهم.
فشعرت قريش بحراجة الموقف، ولم تعد تنعم بالأمن والاستقرار، وأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله أن يُؤوي إليه أبا بصير وأصحابه[20]، متنازلة بمحض إرادتها للمسلمين عن شرط الهدنة[21].
9- التوطئة والتمهيد للفتح الأعظم، فتح مكة:
كان صلح الحديبية سببًا في فتح مكة، والقضاء على الوثنية فيها، وتطهير البيت الحرام من الأصنام، وانتقال السيادة فيها من أيدي المشركين إلى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد أشار الإمام ابن القيم رحمه الله إلى ذلك فقال إنها كانت مقدمة بين يدي الفتح الأعظم، الذي أعز الله به رسوله وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجا، فكانت هذه الهدنة بابًا له ومفتاحًا، ومؤذنًا بين يديه، وهذه عادة الله تعالى سبحانه في الأمور العظام، التي يقضيها قدرًا وشرعًا، أن يوطئ لها بين يديها مقدمات وتوطئات تؤذن بها وتدل عليها)[22].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|