الموت أمرٌ حتمٌ لازم لا مفرَّ منه لكلِّ مَن في الدُّنيا؛ قال - تعالى -: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27].
وللموت وقتٌ محدَّد لا يستطيعُ أحدٌ أنْ يتجاوَز الأجَل الذي ضرَبَه الله؛ ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34].
فلذلك إذا نزَل الموتُ بالإنسان تمنَّى العودة إلى الدُّنيا، فإنْ كان كافرًا فلعلَّه يُسلِم، وإنْ كان عاصيًا فلعلَّه يتوب؛ ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100].
كان السَّلَفُ الصالح - رضي الله عنهم - وفي مقدمتهم أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعدُّون العُدَّة لسؤال القبر، ويخشون ما يمكن أنْ يكون فيه من الابتلاء والامتحان؛ كما أخبَر الصادق المصدوق - عليه الصلاة والسلام - أنَّ هذه الأمَّة تُفتن في قُبورها.
وكانوا - رحمهم الله - على عظيم فَضلِهم وتَقواهم يبكون ويُطِيلون البكاء إذا ذُكِرَ القبر وما فيه؛ لأنَّه المنزل الأوَّل، كما قال - تعالى -: ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18].
قال ابن القيِّم: عذاب القبر ونعيمه اسمٌ لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخِرة؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 100].
ففي الترمذي عن هانئ مولى عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه - بإسنادٍ حسن أنَّه قال: كان - رضي الله عنه - إذا وقَف على قبرٍ بكى حتى تبتلَّ لحيته، فقيل له: تذكُر الجنَّة والنار فلا تبكي، وتذكُر القبر فتبكي؟ فقال: إنِّي سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((القبر أوَّل منزلٍ من منازل الآخِرة، فإنْ نجا منه فما بعدَه أيسَرُ منه، وإنْ لم ينجُ منه فما بعده أشدُّ منه)).
قال: وسمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ما رأيت منظرًا قطُّ إلا والقبر أفظع منه))؛ ("صحيح الجامع"؛ للألباني، قال: سنده حسن 2/ 85).
فصَنِيع عثمان يدلُّ على عميق تأثُّره بالقبر، فالنَّجاة منه عُنوان النجاة، وعدم النجاة منه عنوان الخسران يوم القيامة؛ فلذلك ورَدَتْ نُصوص السُّنَّة تحمل تخوُّف النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أمَّته من عَذاب القبر وفِتنة عَذاب القبر، وتوجيه المؤمنين إلى أنْ يستَعِيذُوا من ذلك بعدَ أنْ يكونوا قد قدَّموا من العمل الصالح في طاعة الله ما يَقِيهم الشدائد، ويجعل نُورهم يسعى بين أيديهم وبإيمانهم يوم الحساب.
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((استَعِيذوا بالله من عَذاب القبر))؛ (أخرجه ابن حبان 787، وصحَّحه الألباني في "السلسلة الصحيحة" 1444).
وجاء في الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيميَّة: "سُئِلَ - رحمه الله -: هل يتكلَّم الميت في قبره أم لا؟ فأجاب: يتكلَّم، وقد يسمع أيضًا مَن كلَّمه"، كما ثبَت في الصحيح عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((إنَّهم يسمعون قرع نِعالهم)).
وثبت عنه في الصحيح أنَّ الميت يُسأَل في قبره: فيُقال له: مَن ربُّك؟ وما دِينك؟ ومَن نبيُّك؟ فيُثبِّت الله المؤمن بالقول الثابت، فيقول: الله ربي، والإسلام دِيني، ومحمد نبيِّي، ويُقال له: ما تقول في هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول المؤمن: هو عبدُ الله ورسوله جاءَنا بالبيِّنات والهدى، فآمنَّا به واتَّبعناه.
قال شيخ الإسلام: وهذا تأويلُ قوله - تعالى -: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27]، وقد صحَّ عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّها نزَلتْ في عذاب القبر.
وفي البخاري أيضًا عن أنس قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وأمَّا المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقولُ في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنتُ أقول ما يقول الناس، فيُقال: لا دريت ولا تليت، ويُضرَب بمطارق من حديدٍ ضربةً فيصيح صَيْحَةً يسمَعُها مَن يَلِيه غير الثَّقلين؛ (أي: الإنس والجن).
فنسأل الله - تعالى - أنْ يُعِيذنا من عَذاب القبر، ويجعَلَ قُبورنا روضةً من رِياض الجنَّة.
فلذلك على المرء المسلم أنْ يستعدَّ لهذا اليوم بالعمل الصالح والاستِجابة لأوامر الله - تعالى - والابتعاد عن زخرف الحياة الدنيا وشَهواتها ومَلذَّاتها؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 32].
وقال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يَتْبَعُ الميتَ ثلاثٌ، فيَرجِع اثنان ويبقى واحدٌ؛ يتبعه أهلُه ومالُه وعملُه، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله))؛ (رواه البخاري 6514، ومسلم 2960).