الحياء والعزة من دروس غزوة الخندق
الحياء:
الحياء شُعْبة من الإيمان، ودُرة تاج الأخلاق؛ فهو يأتي بكل خير، ويمنع من كلِّ شر، وهو جزء أساسي من الثقافة الأخلاقيَّة الإسلامية.
ومن مظاهر الحياء في هذه الغزوة:
• استطاع عمرو بن ودٍّ أن يَقتحِم الخندق من مكان ضيق ومعه بعض فرسان قريش، وكان عمرو من الذين اشتهروا بالقوة والفروسية، وتصدى له علي بن أبي طالب بعد أن دعا للمبارزة، فتجاولا وتصاوَلا حتى قتَله علي رضي الله عنه، ثم أقبل نحو النبي صلى الله عليه وسلم وهو متهلِّل فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هلا سلبته دِرْعه؛ فإنه ليس في العرب درع خيرٌ منها، فقال: إني حين ضربته استقبلني بسَوْءته، فاستحييتُ ابن عمي أن أَستلِبه[1].
العزة والإباء:
• لما اشتدَّ البلاءُ على المسلمين، وصاروا محاصَرين داخل المدينة بجيش الأحزاب، ونقَض اليهود عهودَهم وشرعوا في حرب المسلمين، فكَّر الرسول صلى الله عليه وسلم في التخفيف عن المسلمين بالتصالح مع غطفان على أن يرجعوا إلى ديارهم ولا يُحارِبوا على أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة، فلما أراد أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه، فقالا له: يا رسول الله، أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرَك الله به، لا بد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟ قال: ((بل شيئًا أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيتُ العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالَبُوكم من كلِّ جانب، فأردتُ أن أكسرَ عنكم شوكتهم إلى أمر ما))، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرًى أو بيعًا، أفحين أكرَمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نُعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأنت وذاك))[2].
• ومن مظاهر العزة في هذه الغزوة كذلك أن نوفل بن عبدالله بن المغيرة أقبل على فرسه بعدما غربت الشمس يريد أن يجتاز الخندق فتردَّى به الفرس فقُتِل، وقيل قتَله علي بن أبي طالب أو الزبير، فبعث أبو سفيان يطلب جثَّته في مقابل دفْع الدية كاملة؛ أي: مائة من الإبل، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذوه؛ فإنه خبيث، خبيث الدية))، فلم يقبل منهم شيئًا![3].
وذكر البيهقي في الدلائل أن عليًّا لما تعارك مع عمرو بن وُدٍّ، طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه، فمات في الخندق، وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال صلى الله عليه وسلم: ((هو لكم، لا نأكل ثمن الموتى))[4].
لقد ترفَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قَبُول مال في مقابل جثث المشركين في عزة وإباء، وكان بإمكانه أن يساومهم أو يقبل عرضهم؛ نِكاية بهم وتعويضًا عما تسببوا فيه من خسائر للمسلمين، لا سيما مع وجود مجاعة وشدة، لكن عزة النفس وإباء الطبع المنبثِق عن شرع العزيز الحكم جعلت رسول الله يُعلِن في وضوح: ((نحن لا نأكل ثمن الموتى)).
فما أكرم هذه الأخلاق! وما أرفع هذه النفوس التي استمدَّت عزتَها وإباءها من تمسُّكها بهذا الإسلام العظيم!
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|