فوائد من حديث خبيب بن عدي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة رهط سرية عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهداة وهو بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا لهم قريبًا من مائتي رجل كلهم رام فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة فقالوا هذا تمر يثرب فاقتصوا آثارهم فلما رآهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد وأحاط بهم القوم فقالوا لهم انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ولا نقتل منكم أحدًا. قال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر اللهم أخبر عنا نبيك فرموهم بالنبل فقتلوا عاصمًا في سبعة فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق منهم خبيب الأنصاري وابن دثنة ورجل آخر فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن في هؤلاء لأسوة يريد القتلى فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى فقتلوه فانطلقوا بخبيب وابن دثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر فابتاع خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر فلبث خبيب عندهم أسيرًا فأخبرني عبيد الله بن عياض أن بنت الحارث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته فأخذ ابنًا لي وأنا غافلة حين أتاه قالت فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي فقال تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك. والله ما رأيت أسيرًا قط خيرا من خبيب والله لقد وجدته يومًا يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر وكانت تقول إنه لرزق من الله رزقه خبيبًا فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب ذروني أركع ركعتين فتركوه فركع ركعتين ثم قال لولا أن تظنوا أن ما بي جزع لطولتها اللهم أحصهم عددًا:
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا
على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
فقتله ابن الحارث فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرًا فاستجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه خبرهم وما أصيبوا. وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرف وكان قد قتل رجلًا من عظمائهم يوم بدر فبعث على عاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسولهم فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئًا[1].
هذا الحديث اشتمل على فوائد كثيرة، ذكر كثيرًا منها الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري[2].
أولًا: جاء في الحديث أن عاصم بن ثابت قد قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر، قال ابن حجر: لعله عقبة بن أبي معيط، وفي رواية ابن إسحاق عن عاصم بن عمر عن قتادة قال: كان عاصم بن ثابت أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركًا أبدًا" وفي رواية أنه قال: "إني أحمي لك اليوم دينك، فاحم لي لحمي" فأرسل الله هذه الزنابير أو النحل فحمته من المشركين. قال عمر- رضي الله عنه - لما بلغه خبره: "يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته".
ثانيًا: أن للأسير أن يمتنع من قبول الأمان، ولا يمكن من نفسه ولو قتل، أنفة من أن يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالعزيمة، فإن أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأمن.
ثالثًا: الوفاء للمشركين بالعهد، والتورع عن قتل أولادهم، والتلطف بمن أريد قتله.
رابعًا: الدعاء على المشركين بالعموم، والصلاة عند القتل، وفي الحديث أن خبيب بن عدي أول من سن صلاة الركعتين عند القتل.
خامسًا: فيه إنشاء الشعر وإنشاده ِ عند القتل، ودلالة على قوة يقين خبيب وشدته في دينه.
سادسًا: أن الله تعالى يبتلي عبده المسلم بما شاء، كما سبق في علمه ليثيبه، ولو شاء ربك ما فعلوه، قال تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3].
سابعًا: فيه استجابة دعاء المسلم، وإكرامه حيًا وميتًا، وإنما استجاب الله له في حماية لحمه من المشركين، ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة، ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه.
ثامنًا: فيه ما كان عليه مشركو قريش من تعظيم الحرم والأشهر الحرم.
تاسعًا: فيه أن الغدر والخيانة من صفات الكفار، فقد قتلوا عبدالله بن طارق، وباعوا زيدًا وخبيبًا على قريش، من أجل دراهم معدودة.
عاشرًا: كرامة الله لأوليائه في الدنيا والآخرة، فإن خبيبًا قد رزقه الله العنب وما بمكة من ثمرة، وهو موثق بالحديد عند عدوه، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3].
وغير ذلك من الفوائد والعبر عند التأمل.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|