مشاكل أسرية ومنهجية الحل من حديث: "قم أبا تراب"
عن سهل بن سعد الساعدي قال: ((جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد عليًّا في البيت، فقال: أين ابن عمِّكِ؟ قالت: كان بيني وبينه شيء، فغاضبني، فخرج، فلم يُقِل عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله، هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه، وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه، ويقول: قُمْ أبا تراب، قم أبا تراب))؛ [البخاري (441)].
نأخذ من هذا الحديث عدة مسائل منهجية في حل المشاكل الأسرية:
1ـ لما سأل صلى الله عليه وسلم عن علي كان وقت قيلولة، والمفترض أن يكون المرأة قد هيأت مستراح الرجل الذي يحترق طوال اليوم؛ ليوفر كرامة الأسرة من كدِّ العيش.
2ـ صلة القرابة بين الزوجين تعمق العلاقة، وتشد من وثاقها؛ ولذا قال: ((أين ابن عمك؟)).
3ـ السؤال منهج قبل إطلاق الأحكام، حتى لو كان الأمر فيه نوع من الغرابة أو التصرف غير الطبيعي؛ ولذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يطلق حكمًا.
4ـ قولها: ((قالت: كان بيني وبينه شيء))، هذه فاطمة رضي الله عنها كما ورد في الحديث: ((فاطمة سيدة نساء أهل الجنة))، كما أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من المبشرين بالجنة، ومع هذا يحدث منازعات في الأسرة، وهو أمر طبيعي لا يسلم منه أحد.
5ـ أدب فاطمة فلم تفشِ السر، ولم تخبر سبب النزاع؛ فقالت: ((بيني وبينه شيء)).
6ـ ((فغاضبني)): هذا أمر طبيعي أن كل متنازعين يسعى لرفع اللؤم عنه لِما وقر في نفسه من صحة تصرفه، وهنا يقف المصلح مستمعًا جيدًا لِما حدث.
7ـ ((فخرج، فلم يُقِل عندي)): الانسحاب عند الغضب تصرف يخفف الكثير من وطأة النقاش، ويقلل شحن النفوس بالضغائن، خاصة وأن الغاضب في حالة غير طبيعية؛ ولذا السكوت والانسحاب مناسب جدًّا خاصة بين الزوجين.
8ـ ((فلم يقل عندي)): السكن الحقيقي هو مودة الزوجة وحبها، وجعلها للبيت أجمل مكان لهدوء الأعصاب، وراحة البال، وتنفيس الأوجاع للزوج، وهنا يحلو المقيل.
9ـ ((فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: انظر أين هو؟)): العلاقات الحساسة - ومنها العلاقات الزوجية - تحتاج إلى حلول سريعة؛ لأن طول الزمن فيها يباعد بين القلوب، ويُورِث الحقد، ويتيح الفرص لأهل الحسد.
10ـ ((فجاء فقال: يا رسول الله، هو في المسجد راقد، فجاء)): علي رضي الله عنه يدرك مكانة فاطمة، فما أحب أن يثير أو يبدي للنبي صلى الله عليه وسلم ما حدث، فلم يذهب إليه، ثم إن الوقت فيه نوع خصوصية، وهو وقت القيلولة؛ فآثر النوم في المسجد.
11ـ ((فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم)): تواضع النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إليه، وهذا التصرف دليل محبة ورغبة في بقاء هذه الأسرة، وتقدير واحترام لعائلها، ومقيم حالها، فكان الذهاب من أقوى الرسائل لترجمة هذا المعنى.
12ـ ((وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه، وأصابه تراب)): البيت سِتر الزوجين، خاصة في لحظات التعب والسكون والخلود للنوم؛ ولذا كانت الغرف الخاصة مبدأ لحشمة الزوجين وستر ما يبدر منهما، وفي التراب إشارة إلى أن الشخص في غير بيته عرضة لانكشاف أمور وعناء، قد لا يحب أن يراه عليه أحد.
13ـ ((فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه)): بكل تواضع وحب ورحمة، يقدم النبي صلى الله عليه وسلم لصهره هذا الموقف؛ ليكسِرَ حِدَّة الغضب، ويعبر عن عمق العلاقة، مهما حصل من أعراض ومشاكل داخلية.
14ـ ((ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب)): لم يكتفِ صلى الله عليه وسلم بلمسة العطاء، ومسح التراب، بل لا بد من الكلام الذي يذهب بوحشة الخصام، فقال مازحًا إياه: ((قم أبا تراب))، ولأنها كلمة صادقة من فم الصادق صلى الله عليه وسلم قيل: (ما كان لعليٍّ اسم أحب إليه من أبي تراب، وإن كان لَيفرح به إذا دُعِيَ بها).
15ـ أيضًا نأخذ من الحديث أن الدخول في تفصيلات المشكلة يثير الضغائن، وينفر النفوس؛ ولذا صلى الله عليه وسلم لم يسأل عنها أصلًا.
16ـ تفقُّد الأب لابنته، وزيارتها من وقت لآخر، له عظيم الاحترام عند الزوج، وهو في ذاته توجيه وإرشاد للبنت، إن كان هناك خلل وتذكير لهما بما يجب وما لا يجب؛ فهي صيانة دورية للأسرة.
17ـ من أقوى ما يشتت الأسرة دخول أحد أبوي الزوجين طرفًا فيها، وعدم لزوم الحيادية في سماع المشكلة.
18ـ لا بأس بتوجيه الصهر من قِبل أسرة الزوجة، وكذلك توجيه البنت من قِبل أسرة الزوج، لكن مع المحافظة على حسن التوجيه، ورقي الأسلوب.
19ـ العطف والاحتواء لطرفي النزاع في الأسرة يعيد ركني قيام الأسرة؛ وهو المودة والرحمة.
20ـ الإسلام منهج حياة وطريق إلى الله؛ فهو أعظم وأنقى وأجمل مصدر نحل به مشاكلنا بشتى صورها وتفرق ميادينها؛ لأننا خَلْقُ الله، ولا يصلح لنا إلا منهج الخالق عز وجل؛ فهو يعلم الباطن كما يعلم الظاهر سواء، والله يتولانا برحمته وهو أرحم الراحمين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|