نشأة التشريع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
لقد بدأ التشريع الإسلامي منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من السنة الأولى للبعثة، وينتهي بموته - عليه الصلاة والسلام - في السنة الحادية عشرة من الهجرة؛ هذا عند أكثر أهل العلم.
ومن الباحثين من يُخالف في بدايته، فيرى أنه يبدأ من السنة الأولى للهجرة.
يعد هذا العهد أهم عهود التشريع، لأن الأحكام الشرعية فيه كان مصدرها الوحي بشقيه القرآن والسنة.
وينقسم إلى مرحلتين أساسيتين هما:
أ- المرحلة المكية[1]:
وهي مدة إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وهي ثلاثة عشر عامًا.
وقد اتجه الوحي في هذه المرحلة إلى بيان أصول الدين والدعوة إليها، والأمر بأمهات الفضائل والنهي عن الرذائل، ولم يتعرض إلى الأحكام العملية إلا قليلًا وبشكل كلي غالبًا.
ب- المرحلة المدنية[2]:
وهي مدة إقامة النبي عليه الصلاة والسلام بالمدينة (بعد الهجرة)، وهي عشر سنوات.
وفي هذه المرحلة أخذ الوحي ينزل بالتشريعات المفصلة التي لا بد منها لتنظيم حياة المسلمين، إذ بدأت الدولة الإسلامية تتكون، وتحتاج إلى ما تقوم به من نظم وتشريعات وقوانين تحدد العلاقات بين أفرادها، وبينها وبين غيرها من الأمم فقد وضع الإسلام لأول مرة في تاريخ العرب فكرة الدولة، وجعل من الواجب طاعة السلطان، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾[3].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني"[4].
كما قيد الإسلام سلطة الدولة بأن أوجب الشورى في الحكم، فقال تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾[5].
وقال أيضًا: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾[6] وجاء في الحديث النبوي الشريف: "السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"[7].
كذلك دعا الإسلام إلى الجهاد في سبيل الله وحرم الغزو الجاهلي، وأباح الحرب الدفاعية لأجل دفع العدوان، وحرم قتل الأطفال والشيوخ والنساء، كما منع قتل رجال الدين ومنع التمثيل بالعدو...
كما وضع أحكام الأسرة من زواج وطلاق وولاية ونفقات ومواريث، كما أقر الإسلام الحريات ووضع الضوابط اللازمة لها[8]...
وتتمثل الخطة التشريعية في هذا العهد في ثلاث طرق هي:
الأولى: حدوث واقعة:
فمن الأحكام التي نزلت بمناسبة حوادث وقعت قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾[9].
فقد نزلت هذه الآية بمناسبة حادثة خلاصتها أن أحد المسلمين عزم على نكاح مشركة وعلق نكاحه على موافقة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبره بذلك نزلت هذه الآية.
ومن ذلك أيضًا ما رُوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: "جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله بابنتيها فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد ابن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدًا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالًا، ولا ينكحان إلا بمال، فقال: "يقضي الله في ذلك". فنزلت آية الميراث، فأرسل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عمهما فقال: "أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك"[10].
الثانية: ورود سؤال:
ومن الأحكام التي نزلت جوابًا عن سؤال قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾[11].
وقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾[12].
وقوله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾[13].
وقوله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾[14].
وقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾[15].
وقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾[16].
وقوله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾[17].
وقوله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ﴾[18].
ومن السنة ما روي أن بعض الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: "إنا نركب البحر المالح وليس معنا من الماء العذب ما يكفي الوضوء أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو الطهور ماؤه الحل ميتته"[19].
وروى البخاري وسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن هندًا قالت: "يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو ولا يعلم، فقال عليه الصلاة والسلام: "خذي ما يكفيك بالمعروف"[20].
الثالثة: تشريع أحكام غير مسبوقة بواقعة أو سؤال أو اجتهادًا من النبي صلى الله عليه وسلم:
ومن تلك الأحكام قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ... ﴾[21].
وقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾[22].
إضافة إلى أحكام أخرى تتعلق بالأسرة وبعض العقوبات ونحو ذلك.
هذا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مرجع الفتيا والقضاء والتربية، وهو المبلغ عن الله تعالى، ولا اعتبار لاجتهاد غيره من الصحابة في الأحكام، وحيث لا اجتهاد فلا اختلاف ولا تعدد أقوال في المسألة الواحدة ولا إجماع.
قال ابن القيم[23] رحمه الله تعالى: "وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده؛ فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾[24] فكانت فتاويه -صلى الله عليه وسلم- جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلًا.
وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾[25].
ثم إن أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه ولازموه كانوا بلغاء ولم يكونوا بحاجة لفهم خطابه لوضع القواعد، فخطاب الله تعالى وهو القرآن نزل بلغتهم على أسباب عرفوها وقصص كانوا فيها فعرفوا مدلولاته من مضمون ومنطوق ومعقول، وقد شاهدوا ذلك كله وعرفوه وتكرر عليهم وتحروه.
هذا وإن كان الاجتهاد قد وقع على عهده صلى الله عليه وسلم فلم يكن مصدرًا مستقلًا من مصادر التشريع في حياته إلا في حدود ضيقة لأن اجتهاد الصحابة مرده إلى الوحي فإن أقره يكون مرجعه كتابًا أو سنة وإن رده يكون لاغيًا.
أما تدوين التشريع فقد اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم كتّابًا يكتبون ما يوحى به إليه من القرآن، منهم: علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وغيرهم، وكان الصحابة يحفظون ما ينزل على نبيهم صلى الله عليه وسلم ويكتبونه في رقاع ونحوها ولم يكن مجموعًا في مصحف واحد حتى جُمع في مصحف واحد على عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
أما الوحي غير المتلو فلم يأمر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بكتابته بل نهى عن كتابة غير القرآن خشية الاختلاط، فقد جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"[26].
فهذا النص في النهي عن كتابة غير القرآن، وأمر ليحدثوا عنه ولا يكذبوا فيما يقولون عنه، لذلك حُفظت السنة في صدور الصحابة رضوان الله عليهم وبلغوها لغيرهم بأمانة وصدق، وهي محفوظة بحفظ الله للقرآن لأنها مبينة للقرآن وشارحة له قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾.
وقد كانت هذه الفترة من التشريع الإسلامي فترة حق وعدل لأن الحكم فيها كان لله ورسوله كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾[27].
وقد سبق علم الله واقتضت حكمته أن كل حي يموت ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قضى مشرعًا للأمة بشرع الله وواضعًا لهم أسس الدين وعلّمهم شرع رب العالمين وترك فيهم وحيه وهديه وقرآنه الكريم فسار الناس ولا يزالون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها على خير ما التزموا بوحي رب العالمين وهدي نبيه الأمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|