حدث في السنة التاسعة من الهجرة (2)
11- وفي رجب من هذه السنة: كانت غزوة تبوك..
الشرح:
تقع تبوك شمال الحجاز، وتبعد عن المدينة المنورة 778 كم حسب الطرق المعبدة في الوقت الحاضر، وكانت من ديار قُضاعة الخاضعة لسلطان الروم آنذاك[1].
وقد عزم النبي -صلى الله عليه وسلم- غزو الروم لنشر الدين الإسلام في هذه البلاد التي هي من أقرب البلاد إلى أرض الحجاز، والتي تقع تحت السيطرة الرومية، ولتكون تلك هي المواجهة الثانية مع الروم بعد غزوة مؤتة التي لم تحقق جميع أهدافها المرجوَّة؛ فبرغم أنها أظهرت للعالم قدرة المسلمين الفائقة، حتى في مواجهة أعظم إمبراطورية في العالم حينها، وهي إمبراطورية الروم، إلَّا أنها لم تحقق الهدف الأسمى الذي ينشده المسلمون، ألا وهو إخضاع هذه الإمبراطورية وتلك الدول للإسلام والمسلمين وبالتالي توسيع المجال أمام الدعوة الإسلامية أن تنشر بين ساكني تلك الدول، التي يمنع حكامها الظالمون المسلمين من نشر الدين الحق فيها.
والذي جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج في هذا الوقت بالذات، رغم ما كان بالمسلمين من شدة وعُسرة، وصول خبر إلى المدينة أنَّ أحد ملوك غسان تجهز لغزو المسلمين، مما جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يسارع في الخروج لملاقاتهم في بلادهم، قبل مباغتتهم المسلمين في بلادهم[2].
فنادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصحابة بالجهاد لغزو الروم، ولم تكن تلك عادة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعلم الصحابة بوجهته الحقيقة إنما كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد غزوة يغزوها وَرَّى بغيرها[3].
عن كَعْبِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَغَزَاهَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا[4]، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى[5] لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ؛ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ[6].
وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالإنفاق لتجهيز جيش العُسْرة[7]، فقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ»، فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ بن عفان - رضي الله عنه - [8].
وقد تبرع عُثْمَانُ - رضي الله عنه - من المال فقط بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَجاء بها فنْثُرَهَا فِي حِجْرِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجعل النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُقَلِّبُهَا فِي حِجْرِهِ، وَيَقُولُ: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ، مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ»[9].
وأخذ المنافقون في تثبيط المؤمنين عن الخروج والجهاد في سبيل الله وقالوا: ﴿ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ﴾ [التوبة: 81].
وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 81].
يُبلغهم الله تعالى أن نار جهنم التي سيصيرون إليها بسبب مخالفتهم أمره -صلى الله عليه وسلم- أشد حرًا مما فروا منه.
وجاء المعذّرون من الأعراب الذين يسكنون حول المدينة يشكون للنبي -صلى الله عليه وسلم- ضعفهم وفقرهم وعدم استطاعتهم الخروج معه -صلى الله عليه وسلم-، كما جاء المنافقون مبدين الأعذار الكاذبة والحجج الواهية مستأذنين النبي -صلى الله عليه وسلم- في عدم الخروج.
وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 90].
ثم بيَّن الله تعالى حال أصحاب الأعذار الحقيقية، وأنه لا سبيل عليهم، فقال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ ﴾ [التوبة: 91].
كما بيَّن الله - عز وجل - تقبله عذر الفقراء الذين جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليحملهم معه في تلك الغزوة، فلم يجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يحملهم عليه، فتولَّوا وهم يبكون من شدة حزنهم لعدم استطاعتهم الخروج، فقال تعالى: ﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 92]].
ثم قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ﴾ [التوبة: 93].
وكان أكثر المنافقين الذين تخلَّفوا من الأعراب أهل البادية، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ﴾ [التوبة: 98، 99].
ثم بيَّن الله تعالى أنه ليس كلهم كذلك، بل منهم من هو مؤمن، فقال تعالى: ﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ﴾ [التوبة: 99].
ثم أوضح الله تعالى أن بالمدينة منافقون أيضًا، فقال تعالى: ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ﴾ [التوبة: 101].
وعمومًا فقد أذن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لكل من جاءه معتذرًا، فهو -صلى الله عليه وسلم- لم يشُق عن قلوبهم ولا يعلم ما بداخلها.
فعاتبه الله تعالى فأنزل عليه: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 43].
يقول الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: هلَّا تركتهم لمَّا استأذنوك، فلم تأذن لأحد منهم في القعود، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب، فإنهم إن كانوا مؤمنين حقًا ثم وجدوك لم تأذن لهم في القعود لخرجوا معك ولو كان بهم شدَّة.
وعلى أية حال فقد كان عدم خروجهم في مصلحة المؤمنين يقول الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا ﴾ [التوبة: 46، 47].
ويحكي أبو مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - قصة الأشعريين الذين أرسلوه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألونه الحُملان لهم، فيقول - رضي الله عنه -: أَرْسَلَنِي أصحابي إِلَى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أَسْأَلُهُ الْحُمْلَانَ لَهُمْ إِذْ هُمْ مَعَهُ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ، وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله إِنَّ أصحابي أَرْسَلُونِي إِلَيْكَ لِتَحْمِلَهُمْ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ، - يقول أبو موسى-: وَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ وَلَا أَشْعُرُ، وَرَجَعْتُ حَزِينًا مِنْ مَنْعِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَمِنْ مَخَافَةِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَجَدَ فِي نَفْسِهِ عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى أصحابي فَأَخْبَرْتُهُمْ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمْ أَلْبَثْ إِلَّا سُوَيْعَةً إِذْ سَمِعْتُ بِلَالًا يُنَادِي أَيْ عبد الله بن قَيْسٍ، فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ: أَجِبْ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُوكَ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ، قَالَ: خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ، وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ[10] - لِسِتَّةِ أَبْعِرَةٍ ابْتَاعَهُنَّ حِينَئِذٍ مِنْ سَعْدٍ- فَانْطَلِقْ بِهِنَّ إِلَى أَصْحَابِكَ، فَقُلْ: إِنَّ الله - أَوْ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله- يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ فَارْكَبُوهُنَّ فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِمْ بِهِنَّ، فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَا أَدَعُكُمْ حَتَّى يَنْطَلِقَ مَعِي بَعْضُكُمْ إِلَى مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، لَا تَظُنُّوا أَنِّي حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا لَمْ يَقُلْهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ إِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ وَلَنَفْعَلَنَّ مَا أَحْبَبْتَ، فَانْطَلَقَ أبو مُوسَى بنفَرٍ مِنْهُمْ حَتَّى أَتَوْا الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- مَنْعَهُ إِيَّاهُمْ ثُمَّ إِعْطَاءَهُمْ بَعْدُ فَحَدَّثُوهُمْ بِمِثْلِ مَا حَدَّثَهُمْ بِهِ أبو مُوسَى[11].
وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- متوجهًا إلى تبوك بجيش يقرب من الثلاثين ألف مقاتل[12]، معهم حوالي عشرة آلاف فرس، وخلَّف على المدينة عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - [13]، فَقَالَ عليٌّ للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أَتُخَلِّفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ؟ قَالَ: «أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي[14].
وكان خَرَوجَ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الغزوة يَوْمَ الْخَمِيسِ حيث كَانَ -صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ في جميع أصفاره[15].
وفي الطريق أصاب المسلمين مجاعة شديدة وعطش، فعَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَوْ أبي سَعِيدٍ (شَكَّ الْأَعْمَشُ) قَالَ: لَمَّا كَانَ غَزْوَةُ تَبُوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا، فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: افْعَلُوا، قَالَ فَجَاءَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ وَلَكِنْ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ ثُمَّ ادْعُ الله لَهُمْ عَلَيْهَا بِالْبَرَكَةِ لَعَلَّ الله أَنْ يَجْعَلَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «نَعَمْ»، فَدَعَا بنطَعٍ فَبَسَطَهُ ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَسْرَةٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ، قَالَ: فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلَّا مَلَئُوهُ، قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُولُ الله، لَا يَلْقَى الله بِهِمَا عبد غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنْ الْجَنَّةِ»[16].
فأكل الصحابة - رضي الله عنهم - وشربوا، بعد ما نالوه من جوع وعطش شديَدْين.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: خرجنا إلى تبوك في قَيظ شديد، فنزلنا منزلًا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إنَّ الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرْثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرًا، فادع الله لنا، فقال: أتحب ذلك؟ قال: نعم، قال: فرفع يديه نحو السماء، فلم يرجعها حتى قالت السماء فأظلت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر[17].
فقال الصحابة لأحد المنافقين ممن كان معهم: وَيْحَك؛ هَلْ بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ؟! قَالَ: سَحَابَةٌ مَارّةٌ[18].
وفي الطريق فُقدت ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال أحد المنافقين - واسمه زيد بن اللُّصيت- وكان في رَحْل صحابي اسمه عُمارة بن حزم: أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمارة عنده: إن رجلًا قال: هذا محمد يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته، وأنا والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي في شِعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها، فذهبوا فجاءوا بها، فرجع عمارة بن حزم إلى رحله، فقال: والله لعجبٌ من شيء حدثناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آنفًا، عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا وكذا – للذي قال زيد بن اللُّصيت- فقال رجل: ممن كان في رحل عُمارة ولم يحضر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي، فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه، ويقول: إلي عباد الله، إن في رحلي لداهية وما أشعر، اخرج أيْ عدو الله من رحلي، فلا تصحبني[19].
ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: تخلف فلان، فيقول: دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك، فقد أراحكم الله منه.
وتلوَّم على أبي ذر بعيرُه، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فجعله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماشيًا، ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل ماش على الطريق، وحده، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كن أبا ذر»، فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده»[20].
وكان أبو خَيْثَمَةَ - رضي الله عنه - رَجَعَ - بَعْدَ أَنْ سَارَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أَيّامًا- إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارّ، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشَيْنِ[21] لَهُمَا فِي حَائِطِهِ، قَدْ رَشّتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً، وَهَيّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا، فَلَمّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ، فَنَظَرَ إلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فِي الضّحّ[22] وَالرّيحِ وَالْحَرّ، وَأبو خَيْثَمَةَ فِي ظِلّ بَارِدٍ، وَطَعَامٍ مُهَيّأٍ، وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، فِي مَالِهِ مُقِيمٌ، مَا هَذَا بِالنّصَفِ، ثُمّ قَالَ: وَاَللّهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَهَيّئَا لِي زَادًا، فَفَعَلَتَا، ثُمّ قَدّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ، ثُمّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حَتّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ، وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَ أَبَا خَيْثَمَةَ عُمَيْر بن وَهْبٍ الْجُمَحِيّ فِي الطّرِيقِ، يَطْلُبُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَتَرَافَقَا، حَتّى إذَا دَنَوَا مِنْ تَبُوكَ، قَالَ أبو خَيْثَمَةَ لِعُمَيْرِ بن وَهْبٍ: إنّ لِي ذَنْبًا، فَلَا عَلَيْك أَنْ تَخَلّفَ عَنّي حَتّى آتِيَ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَفَعَلَ حَتّى إذَا دَنَا مِنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ، قَالَ النّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطّرِيقِ مُقْبِلٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله هُوَ وَاَللّهِ أبو خَيْثَمَةَ، فَلَمّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلّمَ عَلَى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَوْلَى لَكَ[23] يَا أَبَا خَيْثَمَة»، ثُمّ أَخْبَرَ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- الْخَبَرَ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرًا»، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرِ[24].
ولما وصلوا إلى تبوك حدث أيضًا ما يرويه مُعَاذ بن جَبَلٍ - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَجْمَعُ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمًا أَخَّرَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ الله عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ»، فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ، وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، قَالَ: فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟»، قَالَا: نَعَمْ، فَسَبَّهُمَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، وَقَالَ لَهُمَا: «مَا شَاءَ الله أَنْ يَقُولَ»، ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ، وَغَسَلَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فِيهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا، فَجَرَتْ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ - أَوْ قَالَ: غَزِيرٍ- حَتَّى اسْتَقَى النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ: «يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَاهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا»[25].
وأَقَامَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا[26]، فلم يلق كيدًا؛ حيث خافه ملكُ بني الأصفر والقبائل العربية المتنصّرة، فلم يحضروا.
فقفل النبي -صلى الله عليه وسلم- بجيشه راجعًا إلى المدينة، بعدما عرف الجميع قوة الجيش الإسلامي التي ظنوا أنها ستضعف بعد مؤتة، فوجودوها قد ازدادت قوة وصلابة، حتى إنهم قد خافوا الخروج إليهم.
وصدق رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قام من الليل يصلي - وهو في تَبُوكِ- فَاجْتَمَعَ وَرَاءَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْرُسُونَهُ، حَتَّى إِذَا صَلَّى وَانْصَرَفَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: «لَقَدْ أُعْطِيتُ اللَّيْلَةَ خَمْسًا، مَا أُعْطِيَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: أَمَّا أَنَا فَأُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ عَامَّةً، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي إِنَّمَا يُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ، وَنُصِرْتُ عَلَى الْعَدُوِّ بِالرُّعْبِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ لَمُلِئَ مِنْهُ رُعْبًا، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ آكُلُهَا، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ أَكْلَهَا؛ كَانُوا يُحْرِقُونَهَا، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسَجِدًا وَطَهُورًا، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ، إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ، وَالْخَامِسَةُ هِيَ مَا هِيَ، قِيلَ لِي: سَلْ، فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَدْ سَأَلَ، فَأَخَّرْتُ مَسْأَلَتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ لَكُمْ وَلِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله»[27].
ومما حدث أيضًا في هذه الغزوة ما يرويه أبو حُمَيْد الساعدي - رضي الله عنه - حيث قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا وَادِي الْقُرَى، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي مُسْرِعٌ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيُسْرِعْ مَعِي، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَمْكُثْ»، فَخَرَجْنَا، حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: «هَذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»[28].
وفي مرَجَعَ النبي -صلى الله عليه وسلم- مِنْ تَبُوكَ، وحين دَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ، قال -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ[29].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|