من معجزات الرسل
لَمَّا أرسَل الله رسلَه للخلق، كانوا في أشدِّ حاجة إلى ما يَدْعم دعواهم، ويدل على صِدقهم في الرسالة؛ وإلا فمن السهل على كل أحدٍ أن يَزْعُم أنَّه رسولٌ من عند الله، من أجل هذا أيَّد الله رسلَه بالمعجزات الدالة على صدقِهم دلَالةً واضحةً لا ريبَ فيها...
وسُمِّيَت هذه الدلائل بالمعجزات؛ لأنها تُعْجِز البشرَ عن أن يأتوا بمِثلها مهما بَلَغُوا في الفَوْقِ والتقدم، وقد جرَت سنةُ الله تعالى أن يُؤَيِّد رسلَه بمعجزات تُشبه ما اشتَهرت به أُمَمُهم؛ لتكون الدلَالة أتَمَّ والحُجَة أَلْزَمَ، وإليكم بعضَ الأمثلة:
1- اشتَهر قوم موسى عليه السلام بالسحر والنبوغ فيه، فأرسل الله رسولَه موسى، وأيَّده بالعصا، فانْقَلَبت حيَّة تسعى، فابْتلَعت حبَالَهم وعِصِيَّهم، وأخرَج يده من جَيْبه (شق ثوبه من فوق الصدر)، فخرَجت بيضاءَ من غير سوءٍ، وليس هذا بسحرٍ، ولكنه صُنْع الله الذي أتقَن كلَّ شيءٍ.
2- اشتهر قوم عيسى عليه السلام بالطب، فأرسل الله إليهم عيسى يخُلُق من الطين كهيئة الطَّير، فينفخ فيها طيرًا بإذن الله، ويُبرئ الأكمه (الأعمى)، والأبرص، ويُحْيِي الموتى بإذن الله، وليس شيءٌ من هذا في قدرة الأطباء أجمعين!
3- اشتهر العرب بالفصاحة واللسن، والنثر والشعر، حتى لقد كانوا يقيمون أسواقًا يتفاخرون بالبلاغة فيها ويتبارون، فأرسل الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالكتاب الكريم الذي أعجَزهم عن أن يأتوا بأقصرِ سورة منه، ولم يزالوا في عجزٍ تارةً وعجبٍ لسُموِّ بلاغته تارة أخرى؛ حتى سجدوا تأثرًا بفصاحته.
طَرفٌ من معجزات الرسل عليهم الصلاة والسلام:
في القرآن الكريم والسنة النبوية نَبَأُ كثيرٍ من المعجزات التي أيَّد الله بها رسله صلى الله وسلم عليهم أجمعين، فلنذكر طَرفًا منها بإيجاز مع الإشارة إلى مصدره:
من معجزات موسى عليه السلام انْفِلاق البحر حين ضرَبه بعصاه، حتى جاوزه بني إسرائيل، ونَجَوْا من فرعون، ثم أهلك الله فرعون وقومه بانطباق البحر عليهم، حينما أرادوا اللِّحاق بموسى وقومه، وفي ذلك يقول الله تعالى:﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 63 - 67].
ومن معجزاته عليه السلام نَبْع الماء من الحَجَر حينما ضرَبه بعصاه، قِيل: كان حَجَرًا خاصًّا، وقِيل: المُراد أي حجرٍ كان، وفي هذا يقول الله تعالى:﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [البقرة: 60]، ومنها رفع طُور سيناء فوق بني إسرائيل، حتى قبِلوا التوراة، وكانت شديدة عليهم، فامتنعوا من أخذها والعمل بها، وفي ذلك يقول الله تعالى:﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 171].
ومن معجزات عيسى عليه السلام نزول المائدة من السماء؛ إجابةً لمقترح أصحابه، وفيها يقول الله تبارك وتعالى:﴿ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾[المائدة: 112-115].
ومن معجزات إبراهيم عليه السلام إنجاؤه من النار التي ألقاه فيها قومُه لَمَّا كسَّر آلهتهم، وفيها يقول الله تعالى: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 68، 69].
ومن معجزات صالح عليه السلام إخراجُ الناقة لقومِه من صخرة عيَّنوها له، وفي ذلك يقول عز وجل:﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 73].
طَرفٌ من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم:
أعظمُ المعجزات التي اختصَّ الله بها نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم - الكتاب العزيز، فهو المعجزة الخالدة والآية الباقية إلى انقضاء الدنيا، وهو مُنْطَوٍ على وجوهٍ كثيرةٍ من الإعجاز، لَخَّصَها القاضي عياض رحمه الله في أربعة وجوه:
أ- حُسن بيانه والتئام كَلِمِه، وبلاغتة التي خَرَّ العرب لها سُجَّدًا، مع ما أُوتُوا من ذرَابة اللسان، ومَلَكة البيان.
ب- صوت نَظْمِه العجيب وأسلوبه الغريب التي حارت فيه عقولُهم وتَدَلَّهَت - (تَدَلَّهَ: تَحَيَّرَ) - دُونه أحْلَامُهم، فلم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامِهم من نثرٍ أو نَظْمٍ، أو سَجْعٍ أو رجزٍ، أو شعرٍ.
ج- ما انْطَوَى عليه من المغيبات التي وقعت كما أخَبَر، وكانت مِصْدَاقًا له، وإِخْبَارُه بكثيرٍ من أنباء القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الداثِرة، مما لم يكن يَعلَمُ القصةَ الواحدة منه إلا الفَذُّ من أحْبَار أهل الكتاب الذي قَطَع عمرَه في تَعلُّم ذلك، فيُؤديه القرآن على وجهه، ويأتي به على نَصِّه، فيعترف العالِم بصِحَّتِه وصِدقه، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أُميٌّ لا يقرأ ولا يكتُب، ولم يشتغل يومًا من الأيام بدراسة علمٍ، ولا باسْتِظهار أخبارٍ؛ عَلِمَ هذا العامة والخاصة، فلم يَبْقَ مجالٌ لِمُنكرٍ، ولا طريقٌ لجاحدٍ!
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم انشقاقُ القمر ويشير إليها قوله تعالى:﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ﴾ [القمر: 1، 2].
وفي الصحيحين من حديث أنسٍ رضي الله عنه أنَّ أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُريَهم آيةً، فأراهم انشقاق القمر شقَّين، حتى رأوا حرَاء بينهما، "وحراء جبل بمكة"، وجاء في الأخبار الصحيحة أن فريقًا منهم قالوا: سَحَرنا محمد، وقال فريق آخر: إن كان سَحَرنا، فإنه لا يستطيع أن يَسحر الناس كلَّهم، فانظروا ما يأتيكم به السُّفَّار، فجاء السُّفَّار فأخبروهم بذلك، وانشقاق القمر آيةٌ عظيمةٌ لا يكاد يَعْدِلها شيءٌ من آيات الأنبياء؛ لأنه ظَهَر في السماوات خَارجًا عن جاذبية الكواكب، شاذًّا عن قوانينها، والذي أبدع السماوات في هذا الصنع العجيب قادرٌ على ما يشاء.
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم أنينُ جِذع النخلة الذي كان يَستند إليه حين يخطُب، وفي البخاري عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: كان المسجد مَسْقوفًا على جذوع نخلٍ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذعٍ منها، فلما صُنِع له المنبرُ، سمِعنا لذلك الجذع صوتًا كصوت العِشار، والعِشار هي النُّوق الحوامل.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|