موسى عليه السلام (2)
ذكرتُ في ختام الفصل السابق ما قصَّه الله عز وجل عن ميلاد موسى عليه السلام وإيحاء الله تعالى لأمه أن ﴿ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7].
وقد اشتمل هذا الوحي على أمرين ونهيين وخبرين، وقد أجمل الله تبارك وتعالى ذلك في سورة طه؛ حيث يقول ممتنًّا على موسى عليه السلام: ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ﴾ [طه: 37، 38]، ثم فصَّل ذلك الوحي المجمل فقال: ﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39].
وقد قامت أمُّ موسى عليه السلام بما أمرها الله تعالى به، فألقت ولدها في اليَم بعد أن وضعته في التابوت، أي: الصندوق، وقد ذكر الله تبارك وتعالى أن اليم ألقى بالصندوق وفيه موسى عليه السلام إلى الساحل، أي: شاطئ النهر أمام بيت آل فرعون ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ﴾ [القصص: 8]، وفرحوا به لما ألقى الله عز وجل على موسى من المحبة في قلب مَن يراه، غير أن فرعون خشي أن يكون مِن بني إسرائيل، وفكَّر في قتله، فقالت زوجته آسيا رضي الله عنها: ﴿ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 9]، أنَّهم التقطوا مَن يزول ملكهم على يديه، وأنه سيكون لهم عدوًّا وحَزَنًا، فقيَّض الله له عليه السلام أعدى أعدائه أن يُربُّوه، وأن ينشأ في بيتهم؛ على حد قول الشاعر:
وإذا العِنَايةُ لاحظتْكَ عيونُها
نَمْ فالمخاوفُ كلُّهنَّ أمانُ
وهيَّأ الله تعالى له المرأة الصالحة آسيا زوجة فرعون عدو الله ورسله لتشرف على تربيته، غير أن الله عز وجل منعه من الْتِقَامِ أيِّ ثَدْيٍ غير ثدي أمه، فكلما قدموه لمرضعةٍ رفض الامتصاصَ من ثديها، وقد بلغ الحال بأم موسى مع شدة كظم ما بها من الخوف عليه أن أصبح فؤادها كالهواء، كأنها كادت أن تُجنَّ لولا أن ربط الله على قلبها لتكون من المؤمنين، وقالت لأخته: تتبَّعي أثرَه، وانظري ماذا يفعل به ملتقِطوه، وإيَّاكِ أن يعرفوا أنك أخته أو أنك تحاولين معرفة شيء عنه، فانظري عن بُعْد وبطريقة جانبية لا يُعْرفُ منها أنك مشغولة به، فقامت أختُه بتنفيذ وصية أمها، ومرُّوا بها يبحثون عن مرضعة له، فقالت: أنا أدلكم على مرضعة لعلَّه يقبل منها، فجاؤوا به إلى أمه فالتقم ثديَها ففرحوا فرحًا عظيمًا، وجعلوا يتردَّدون به عليها، وقد قرَّت عينها به وخلَّصها الله تعالى من الحزن عليه، وعَلِمت أن وعد الله حق، وأن الله على كل شيء قدير، وأنه إذا أراد أمرًا هيَّأ له الأسباب وأزال الموانعَ، وقد استمرَّ موسى عليه السلام في بيت فرعون كأنه ولد لهم، يحوطونه بمحبتهم حتى بلغ أشُدَّه واستوى، وملأ الله قلبه حكمة وفقهًا وعلمًا.
وفي هذا تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأن الله تعالى ينصر أولياءه، ويخلِّصُهم من المحن وينجِّيهم من السوء.
وفي ذلك كله يقول الله تبارك وتعالى في سورة القصص: ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [القصص: 8 - 14].
ويقول تعالى في سورة طه: ﴿ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ﴾ [طه: 40]، وفي قوله تعالى: ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ اللام في قوله: ﴿ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ لام العاقبة؛ أي: ما دروا أنهم بالتقاطه ستكون العاقبة أن يكون لهم ﴿ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾، وكم من عملٍ يعمله الإنسان لأمر، فتكون عاقبتُه على عكس ما أراد من عمله؛ لأن الأمر كله لله وحده.
والإنسان مهما ادَّعى القدرة والمعرفة فإنه يجهل عاقبة أمره.
وهامان هو وزير فرعون لعنهما الله، وفي تنشئة موسى في بيت فرعون يقول الله تعالى في سورة الشعراء: ﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴾ [الشعراء: 18]، وبعد أن بلغ موسى عليه السلام أشدَّه وتم نضجه وشبابه وتكامل عقله وأفاء الله تعالى عليه من الحكمة والفقه والعلم، وأراد الله عز وجل أن يقيم على يديه سببًا يدعوه للخروج من مصر، والهروب من آل فرعون والبُعد عن تقاليدهم وعاداتهم قدَّر الله له أن يدخل وسط المدينة في وقت غفلة أهلها؛ إما في وقت نومهم وإما في وقت اشتغالهم بلعبهم ولهوهم؛ حيث تكون الطرقات شبه خالية من المارَّة، فوجد فيها رجلين يتصارعان يريد كلٌّ منها الفتْكَ بصاحبه، وموسى عليه السلام قد عرف أن أحدَهما إسرائيليٌّ وأن الآخرَ قبطيٌّ، وكأنه رأى أن القبطيَّ أشد بأسًا من الإسرائيلي؛ ولذلك استغاثه وطلب منه العون، فأراد موسى عليه السلام أن يدفع القبطيَّ عن الإسرائيلي، فوكزه بيده ودفعه بِجمع كَفِّه ليدفعه عنه، ولم يكن موسى عليه السلام يدري أن هذه الوكزةَ ستقضي عليه وتقتله؛ ولذلك أحسَّ بندم شديد وأسند هذا الشر للشيطان فقال: ﴿ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [القصص: 15، 16]، وعزم على أنه لن يعود لمثلها، وقال: ﴿ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ [القصص: 17]؛ أي: نصيرًا لأحد من الكافرين المجرمين.
وقد أصبح ﴿ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾ [القصص: 18]، ماذا سيؤدي إليه قتلُ هذا القبطي؟ وهل سيعرفون أنه موسى فيأخذونه به؟ وبينما هو كذلك في طريق قريب من موضع قتل القبطي، وإذا بالإسرائيلي الذي ساعده بالأمس (يستصرخه) ويستغيث به على قبطي آخر، فأجابه موسى عليه السلام بأنك شديد الغواية بيِّن الأذى، ولما أشار موسى عليه السلام بيده إلى الإسرائيلي إشارة غضب مؤدبًا له على سوء سلوكه، ﴿ قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [القصص: 19]، فعلم موسى عليه السلام أن الخبر لا بد من أن يصل إلى فرعون من هذا القبطي، وأنهم - لا بد - قاتلوه، وفعلًا أَعْلَمَ القبطيُّ آلَ فرعون بأن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس، فتآمروا على قتل موسى عليه السلام.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|