معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم (3)
قال المصنف - رحمه الله -: (وَلَهُ مِنَ الِعُمُرِ: ثَلاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، مِنْهَا أَرْبَعُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَثَلاثٌ وعشرون نبياً رسولاً، نُبئ بـــ (اقرأ)، وأُرسل بــ (المدثر)، وَبَلَدُهُ مَكَّةُ، وهاجر إلى المدينة).
الشرح الإجمالي:
(وله من العمر)، يعني: من مبدأ ميلاده إلى وفاته عليه الصلاة والسلام: (ثلاث وستون سنة) هي مجموع عمره؛ (منها)، أي: من هذه السنين (أربعون) سنة (قبل النبوة)، فلم يوح إليه إلا وعمره أربعون عاماً، وهذا سن اكتمال الأشد، (و) زمن نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته (ثلاث وعشرون) سنة مكث منها في مكة ثلاثة عشر عاماً، وفي المدينة النبوية عشرة أعوام؛ وكان صلى الله عليه وسلم بعد الأربعين إلى وفاته (نبياً رسولاً)، وأول الأمر كان نبياً فقط، ثم أُرسل بعد ذلك؛ كما سيبين ذلك المصنف، وكان عمره مباركاً أظهر الله به الدين، وتمت به الشريعة، ودخل الناس في الدين أفواجاً، (نبىء بـ إقرأ)، أي: خُبِّر؛ وصار نبياً بإنزال فواتح سورة العلق عليه، فإنها لما أُنزلت عليه عُلم أنه مبعوث من ربه، (وأُرسِل بـ (المدثر))؛ أي: صار رسولاً بنزول أول سورة المدثر عليه؛ لأن فيها التنصيص على الأمر بالنذارة، بالدعوة إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فارتقى من رتبة النبوة إلى رتبة الرسالة،(وبلده) التي ولد فيها ونشأ وعاش غالب حياته حتى بلغ من العمر ثلاثاً وخمسين (مكة) البلد الحرام، وأفضل بلاد الله، فالله جل وعلا اصطفاه من أفضل البلاد، وأفضل الشعوب، وأشرف القبائل، (وهاجر إلى المدينة)، والهجرة يأتي الكلام عليها، والمدينة اسم غالبٌ لمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم دون غيرها من المدن[1].
الشرح التفصيلي:
ولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بجوف مكة، وكان مولده عام الفيل، واختلف في وفاة أبيه عبد الله، هل توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل، أو توفي بعد ولادته؟ على قولين: أصحهما: أنه توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل؛ والثاني: أنه توفي بعد ولادته بسبعة أشهر، ولا خلاف أن أمه ماتت بين مكة والمدينة "بالأبواء" منصرفها من المدينة من زيارة أخواله، ولم يستكمل إذ ذاك سبع سنين، وكفله جده عبد المطلب، وتوفي ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثماني سنين، وقيل: عشر، ثم كفله عمه أبو طالب، واستمرت كفالته له، فلما بلغ ثنتي عشرة سنة خرج به عمه إلى الشام، وقيل: كانت سنه تسع سنين، وفي هذه الخرجة رآه بحيرى الراهب، وأمر عمه ألا يقدم به إلى الشام خوفا عليه من اليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة، فلما بلغ خمساً وعشرين سنة خرج إلى الشام في تجارة، فوصل إلى "بصرى"، ثم رجع، فتزوج عقب رجوعه خديجة بنت خويلد، وقيل تزوجها وله ثلاثون سنة، وقيل إحدى وعشرون، وسنها أربعون، وهي أول امرأة تزوجها، وأول امرأة ماتت من نسائه، ولم ينكح عليها غيرها، وأمَرَه جبريل أن يقرأ عليها السلام من ربها، ثم حَبَّبَ الله إليه الخلوة والتعبد لربه، وكان يخلو بـ "غار حراء" يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، وبغضت إليه الأوثان ودين قومه، فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك؛ فلما كمل له أربعون، أشرق عليه نور النبوة، وأكرمه الله تعالى برسالته، وبعثه إلى خلقه واختصه بكرامته، وجعله أمينه بينه وبين عباده [2]).
وقد بيَّن المصنف فيما سبق اسم النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبه الشريف، وهنا تكلم عن معرفة: عمره، ومدة نبوته ورسالته؛ فقال: (ولـه من العمر ثلاث وستون سنة منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيًّا رسولاً): أي: من مبدأ ميلاده عليه الصلاة والسلام إلى وفاته كان عمره ثلاث وستون سنة، ثم بعد مضي أربعين سنة نُبىء، وبعدها أرسل، فمضى عليه أربعون سنة وهو لا يعلم شيئاً مما جاءه، وثلاث وعشرون سنة كان نبياً رسولاً؛ وهذا ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين)[3]، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه، قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أُمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين)[4]؛ وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم مات وعمره ثلاث وستون سنة، وثبت أنه بُعث على رأس الأربعين، فهذا يدل على أن مدة النبوة والرسالة كانت ثلاثًا وعشرين سنة.
ثم ذكر المصنف مانبىء به عليه الصلاة والسلام، وما أرسل به من القرآن، وذكر بلده وهجرته، فقال: (نبئ بــــــ إقرأ، وأرسل بالمدثر، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة): قال: (نبئ بــــــ إقرأ)، أي: حصلت له النبوة بسورة اقرأ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم حبب إليه الاختلاء، فكان يختلي بغار حراء، فجاءه جبريل عليه السلام، وهو في غار حراء، وقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، يعني: لستُ من أهل القراءة؛ لأنه لا يقرأ ولا يكتب عليه الصلاة والسلام، فقال له جبريل عليه السلام: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [5].
قال: (وأُرسل بالمدثر)، و(المدثر): السورة التي نزلت، وسميت بهذا الاسم؛ لأن الله عز وجل ناداه بهذا الوصف، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى جبريل بين السماء والأرض على الهيئة التي خلقه الله عليها، وله ستمائة جناح عظم الأمر عليه، وذهب ترجف بوادره صلى الله عليه وسلم، يقول لأهله: دثروني دثروني من شدة ما وجد من الفزع، فأتاه الخطاب في هذه السورة التي ذكر المصنف -رحمه الله تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [6]، وفيها أُمر صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنذارة؛ أما سورة (اقرأ) فلم يأمره الله جل وعلا فيها بالتبليغ ولا أرسله، إنما أمره بالقراءة لنفسه [7].
وقوله: (نبيٌّ بــــــ اقرأ وأُرسل بالمدثر): هذه معرفة واجبة، وقوله (وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة) هذا من المستحبِّ معرفته؛ ومعرفة النبي صلى الله عليه وسلم منها قدر متعين على كل أحد لا يصح دينه إلا به، ومنها قدر مستحب، والواجب في معرفة الرسول على الأعيان يرجع إلى أربعة أمور [8]:
الأول: معرفة اسمه الأول (محمد) دون جر بقية نسبه؛ لأن جهله باسمه مؤذن بجهله بشخصه وبحقيقة بعثته، لأن الأسماء جُعلت للأعلام للدلالة عليها، ومن لم يعرف اسم الرسول لم يعرف كونه رسولاً، فلو لم يعرف الإنسان أن أباه عبد الله، وأن جده عبد المطلب، وصدَّق به وآمن به لم يضره ذلك، لكن من تمام المعرفة به صلى الله عليه وسلم المعرفة بنسبه، وقد جاء في الحديث: أنَّ الملكين يسألان العبد: (ما هذا الرجل الذي كان فيكم، فيقول: محمد رسول الله)[9].
والثاني: معرفة أنه عبدٌ لله، ورسولٌ من عند الله، اختاره الله وفضله بالرسالة، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، جاء في الصحيحين من حديث أنس >، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ لمحمد صلى الله عليه وسلم، فأما المؤمن، فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً)[10].
والثالث: معرفة أنه جاءنا بالبينات والهدى ودين الحق، ومعرفة ما بُعث به هو أعظمها وأعلاها، روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمَّا فتنة الدجال: فإنه لم يكن نبي إلا قد حذَّر أمته، وسأحذركموه تحذيراً لم يحذره نبي أمته، إنه أعور، والله عز وجل ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن؛ فأما فتنة القبر: فبي تفتنون، وعني تسألون، فإذا كان الرجل الصالح، أُجلس في قبره غير فزع، ولا مشعوف، ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: في الإسلام؟ فيقال: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءنا بالبينات من عند الله عز وجل، فصدقناه، فيفرج له فرجة قبل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله عز وجل، ثم يفرج له فرجة إلى الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك منها، ويقال: على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله) [11].
والرابع: معرفة أن الذي دل على صدقه وثبتت به رسالته هو القرآن كلام الله عز وجل، ويدلُّ على ذلك حديث البراء بن عازب، قال: (فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، فينادي مناد في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة)
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|