الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في الحج
فعبادة الحج من أعظم العبادات، وأفضل الطاعات، وعبادة العمر، وختام السعادة، وكمال الدين، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، التي بعث الله عز وجل بها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأوجبه الله تعالى مرة واحدة على كل مسلم متى استطاع أن يؤديه؛ قال تعالى: ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96، 97].
فالخطاب في الآية الكريمة "عام في جميع الناس، ذكرهم وأنثاهم، ما عدا الصغار، فإنهم غير مكلفين، إذا وجدت الاستطاعة، وإذا وجدت الاستطاعة فقد يمنع مانع من الحج؛ كالغريم يمنعه الدائن عن الخروج حتى يؤدِّي الدَّين، أو يكون له عيال يجب عليه نفقتهم، فلا يلزمه الحجُّ، حتى يوفِّر لهم النفقة مدة الغياب" [1].
والحج من العبادات التي يتضح فيها التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، واتباع هديه، ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، "أعلم الناس أنه حاج، فتجهزوا للخروج معه، وسمع ذلك من حول المدينة، فقدموا يريدون الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون، فكانوا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله مد البصر" [2]، فحج مع النبي صلى الله عليه وسلم "أكثر من مائة ألف إنسان " [3].
فكان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يستثمر المواسم والتجمعات، والأسواق في الدعوة الى دين الله عز وجل، وقد اغتنم صلى الله عليه وسلم فريضة الحج واجتماع هذه الحشود الهائلة، وفي هذه الأماكن المباركة، فرغب صلى الله عليه وسلم في إقامة الحجة على الناس، وحثهم على التعليم والتلقي عنه، فعلى الداعية إلى الله تعالى أن يقتفي أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينهج نهجه، ويتبع هديه، وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم على التأسي به، والتمسك بهديه، فأمر الناس بأخذ المناسك عنه، فعن جابر رضي الله عنه أنه قال: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجتِي هَذِهِ»[4].
فاللام في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتأخذوا مناسككم" هي "لام الأمر، ومعناه خذوا مناسككم، وتقدير هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته وهي مناسككم، فخذوها عني واقبلوها واحفظوها، واعملوا بها وعلموها الناس" [5].
فمن مظاهر الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في عبادته: أنه صلى الله عليه وسلم حج حجة واحدة، كانت أفضل حجة في التاريخ، أخلص فيها العمل لله وتضرع إلى ربه سبحانه وتعالى أن يجنبه الرياء؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: حج النبي صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم، أو لا تساوي، قَالَ: «اللَّهُمَّ حَجَّة لاَ رِيَاءَ فِيهَا، وَلاَ سُمْعَةَ«[6]، وعظم فيها شعائر[7] الله تعالى، وصدع بدينه، ووضح للحجاج مناسكهم، وخطب ينذرهم ويعلمهم، وجمع فيها بين القول بالفعل.
ومن "مظاهر تربيته صلى الله عليه وسلم في الحج لأصحابه رضي الله عنهم على المتابعة والاقتصار في الأخذ والتلقي على نصوص الوحي كثيرة، من أبرزها: مطالبته صلى الله عليه وسلم الحجيج في مواطن عدة خلال الموسم بالتأسي به، وتحفيزه إياهم على ذلك بذكر احتمال أن تكون حجته تلك آخر حجة له" [8].
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم في الحج "قام بتعليم الناس وقيادتهم في آنٍ واحد، ومع ذلك فما أنت مريد أن ترى شيئًا فعله صلى الله عليه وسلم معهم على خلاف الأولى إلا وأنت عاجز عن ذلك، وكل أحواله صلى الله عليه وسلم والوظائف التي قام بها مع أمته دالة على عظمته وعلو مرتبته" [9].
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من حوله العلم والأحكام، فعلمهم وأرشدهم إلى الخير وحضهم عليه، وغرس في قلوبهم الحاجة إلى التأسي به قولًا وعملًا، ومما لا شك فيه أن العمل أقوى تأثيرًا في النفوس، فينبغي على المعلم أن يكون رفيقًا بطالب العلم، وأن يرشده إلى ما يحتاج إليه عن طريق التعليم العملي.
وقد أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه صحابيين جليلين، هما حبه أسامة بن زيد وابن عمه الفضل بن العباس رضي الله عنهما في أدائه المناسك؛ ليتأسوا به ولينقلوا عنه صلى الله عليه وسلم، ويبلغوا الناس؛ فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْدَفَهُ مِنْ عَرَفَةَ، قَالَ: فَقَالَ النَّاسُ: سَيُخْبِرُنَا صَاحِبُنَا مَا صَنَعَ، قَالَ: قَالَ أُسَامَةُ رضي الله عنه: «لَمَّا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ، فَوَقَفَ كَفُّ رَأْسِ رَاحِلَتِهِ حَتَّى أَصَابَ رَأْسُهَا وَاسِطَةَ الرَّحْلِ، أَوْ كَادَ يُصِيبُهُ، يُشِيرُ إِلَى النَّاسِ بِيَدِهِ: السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ، حَتَّى أَتَى جَمْعًا»، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: فَقَالَ النَّاسُ: يُخْبِرُنَا صَاحِبُنَا بِمَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الْفَضْلُ رضي الله عنه: «لَمْ يَزَلْ يَسِيرُ سَيْرًا لَيِّنًا كَسَيْرِهِ بِالْأَمْسِ، حَتَّى أَتَى عَلَى وَادِي مُحَسِّرٍ[10] فَدَفَعَ فِيهِ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ الْأَرْضُ »[11].
فالتفكر "الذي ينشأ عنه البكاء في مثل ذلك المقام ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: تفكر يتعلق بالله تعالى إذ قضى على أولئك بالكفر.
الثاني: يتعلق بأولئك القوم إذا بارزوا ربهم الكفر والفساد.
الثالث: يتعلق بالمار عليهم؛ لأنه وَفق للإيمان وتمكن من الاستدراك والمسامحة في الزلل، وفيه الدلالة على كراهة الصلاة في موضع الخسف والعذاب" [12].
فقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتأثر ويسرع عند المرور بمواضع الخسف والعذاب للظالمين"، فالعاصي شؤم على نفسه وعلى غيره" [13]، فينبغي الدخول بسمت مخصوص وحالة من الخوف والبكاء مع رقة القلب، والاعتبار بما حل بهم، فالله تعالى قد مكنهم في الأرض وأمهلهم بطول مُكثهم في الأرض، وقد أسرع صلى الله عليه وسلم في وادى محسر؛ لأن أصحاب الفيل هلكوا هناك، وقد حث الرسول إلى "الاتعاظ بهؤلاء الأقوام الذين استحقوا مقت الله وغضبه" [14].
ومما ينبغي على كل حاج أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المواضع، وأن يعتبر بمصارع الظلمة، وأن يتَّعظ بما حل بهم من العذاب، وأن يستعيذ بالله من ذلك، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِ الْحِجْرِ: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ» [15].
فالحديث الشريف دل على تذكُّر "ما وقع للأمم الخالية والتحذير من السير في سبيلهم؛ خشية من وقوع مثل ما أصابهم، وفيه شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم" [16].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|