بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
سكان ما بين النهرين استخدموا أول هجين من الحُمُر المستأنسة والبرية لسحب عرباتهم
نظرا لأن كل حيوانات الكونغا كانت عقيمة، مثل العديد من الحيوانات الهجينة كالبغال، فقد كان لا بد من إنتاجها عن طريق تزاوج أنثى حمار مستأنسة مع ذكر حمار بري كان لا بد من أسره.
يُعتقد أن العظام في أم مَرّة كانت لحيوان الكونغا (جامعة جونز هوبكنز-لايف ساينس)
كشفت دراسة جديدة أن سكان بلاد ما بين النهرين كانوا يستخدمون حيوانات هجينة من الحمير المستأنسة والحمير البرية لسحب عرباتهم الحربية قبل 4500 عام، أي قبل ما لا يقل عن 500 عام من تربية الخيول لهذا الغرض.
وأشار العلماء إلى أن هذا الاكتشاف يحل أحد أكثر الألغاز التي حيرت علماء التاريخ حول طبيعة الحيوانات التي جرّت العربات الحربية الثقيلة في تلك الحقبة القديمة جدا، التي لم يروض الإنسان الجياد فيها.
وأدى تحليل الحمض النووي القديم من عظام الحيوانات المكتشفة في مناطق شمالي سوريا، إلى جواب عن هذا السؤال القديم، حول نوع الحيوانات التي وصفت في المصادر القديمة بأنها تجرّ العربات الحربية والعتاد الحربي الثقيل.
وقالت المؤلفة المشاركة في الدراسة إيفا ماريا غيغل عالمة الجينوم في معهد جاك مونود في باريس (Jacques Monod Institute)، في تقرير لموقع "لايف ساينس" (Live Science)، "من الهياكل العظمية، علمنا أنها خيلية [حيوانات شبيهة بالحصان]، لكنها لم تتناسب مع قياسات الحمير المستأنسة ولم تتناسب مع قياسات الحمير البرية السورية"، وأضافت "لذلك كانت مختلفة إلى حد ما، لكن لم يكن الفرق واضحا".
الدراسة الجديدة
في الدراسة الجديدة التي نشرت في دورية "ساينس أدفانسز" (Science Advances) بتاريخ 7 يناير/كانون الثاني الجاري، قارن الباحثون الجينوم المأخوذ من عظام آخر حمار برّي سوري من فيينا مع الجينوم المأخوذ من عظام حمار بري عمره 11 ألف عام، اكتُشفت في موقع "غوبيكلي تيبي" (Göbekli Tepe) التركي الأثري.
وجاءت عظام "الكونغا" (kunga) المستخدمة في الدراسة من مجمع دفن أميري في تل أم المَرّة شمال سوريا، يرجع تاريخه إلى أوائل العصر البرونزي بين 3000 قبل الميلاد و2000 قبل الميلاد، ويُعتقد أن الموقع هو أطلال مدينة طوبا القديمة المذكورة في النقوش المصرية.
تُظهر لوحة الحرب من الفسيفساء السومرية فرقا من الكونغا تجر عربات ذات 4 عجلات (تييري غرانغ-جامعة باريس)
وقد قامت المؤلفة المشاركة في الدراسة غيل ويبر، عالمة الآثار في جامعة بنسلفانيا، بالتنقيب عن العظام منذ حوالي 10 سنوات.
وقالت ويبر إن الحيوانات من تل أم المرة كانت من حيوانات الكونغا، لأن أسنانها كانت فيها علامات من أحزمة القطع وأنماط التآكل التي أظهرت أنها قد تم إطعامها بشكل مقصود، بدلا من تركها ترعى مثل الحمير العادية.
وقالت غيغل إن هذه المقارنة أظهرت أن كلا الحيوانين كان من النوع نفسه، لكن الحمار البري القديم كان أكبر بكثير. وقالت إن هذا يشير إلى أن أنواع الحمار البرية السورية أصبحت أصغر بكثير في الآونة الأخيرة مما كانت عليه في العصور القديمة، ربما بسبب الضغوط البيئية مثل الصيد.
لوحة حجرية من العاصمة الآشورية تظهر رجلين يقودان حمارا بريا غير قابل للترويض (ساينس أدفانسز)
حيوان الكونغا
من المعروف أن البغل حيوان ثديي معمر وعقيم من آكلات الأعشاب، والحمار أيضا حيوان مستأنس من الجنس الذي ينتمي إليه الحصان؛ ويشبهه ولكنه أقرب إلى البغل، وهو حيوان صبور قوي يستعمل للركوب والجرّ وحمل الأثقال، ويعيش بصورة برية في صحاري آسيا وأفريقيا وبراريها، تعود أصوله إلى الحمار البري الأفريقي، وقد تم استئناسه في الألف الرابع قبل الميلاد في بلاد الرافدين، ويُعد الحمار البري السوري الأصل للحمار الأخدري (Onager) المهدد بالانقراض.
وقد دلت الاكتشافات الحديثة في تل أم المَرّة بشمالي سوريا على أن الهجين بين الحمار البري السوري والأونغر، أنتج حيوان الكونغا (Kunga) الذي عرف منذ الحضارة السومرية بالحيوان الملكي، لقيمته الكبرى وصفاته المميزة، وقد انقرض مع استئناس الحصان وظهور البغل بديلا من الحيوانات الهجينة القوية.
تم ذكر الكونغا في العديد من النصوص القديمة في الكتابة المسمارية على ألواح طينية في بلاد ما بين النهرين، وقد تم تصويرها وهي تجر عربات حربية ذات 4 عجلات على لوحة "الحرب في أور" (Standard of Ur)، وهي فسيفساء سومرية تعود إلى حوالي 4500 عام معروضة الآن في المتحف البريطاني في لندن.
التنقيب عن عظام الكونغا منذ حوالي 10 سنوات في تل أم المَرّة في شمال سوريا (جامعة جونز هوبكنز-لايف ساينس)
سيارات هجينة بيولوجيا
يعتقد المؤرخون أن السومريين كانوا أول من قام بتربية الكونغا قبل 2500 عام قبل الميلاد، قبل 500 عام على الأقل من ظهور الخيول المستأنسة الأولى من السهوب شمال جبال القوقاز، وفقًا لدراسة سابقة أجريت عام 2020 في مجلة "ساينس أدفانسز" من قبل العديد من الباحثين المشاركين في الدراسة الأخيرة.
وتُظهر السجلات القديمة أن الدول التي خلفت السومريين -مثل الآشوريين- استمرت في إكثار وبيع الكونغا لعدة قرون. وتظهر لوحة حجرية منحوتة من العاصمة الآشورية نينوى، موجودة الآن في المتحف البريطاني، رجلين يقودان حمارا بريا كانا يمتلكانه.
وعلى حد قول غيغل، تشير السجلات القديمة إلى أن حيوانات الكونغا هي حيوانات ذات قيمة عالية ومكلفة للغاية، وهو ما يمكن تفسيره من خلال عملية تكاثرها الصعبة إلى حد ما.
وأضافت غيغل "لقد قاموا حقا بتصميم هذه السيارات الهجينة بيولوجيا".. و"كانت هناك أقدم أنواع هجينة على الإطلاق، على حد علمنا، وكان عليهم فعل ذلك في كل مرة لكل كونغا تم إنتاجها، وهذا ما يفسر سبب كونها ذات قيمة كبيرة".
كشف تسلسل الجينوم عن أول دليل معروف على تربية حيوانات الكونغا الهجينة (ساينس ماجازين)
وأضافت أنه "نظرا لأن كل حيوانات الكونغا كانت عقيمة، مثل العديد من الحيوانات الهجينة كالبغال، فقد كان لا بد من إنتاجها عن طريق تزاوج أنثى حمار مستأنسة مع ذكر حمار بري كان لا بد من أسره. وكانت هذه مهمة صعبة بشكل خاص لأن الحمير البرية من المستحيل ترويضها".
ويعتقد بعض الخبراء أن الحمر البرية السورية كانت صغيرة جدا، أصغر من الحمر المستأنسة، لتتم تربيتها لإنتاج الكونغا. وقالت غيغل إن علماء الآثار كانوا يشتبهون في أنها نوع من الحمر الهجينة، لكنهم لم يعرفوا الفرس التي تم تهجينها معها.
انقرضت الأنواع الآن، ومات آخر حمار بري سوري -لا يزيد ارتفاعه عن متر- عام 1927 في أقدم حديقة حيوانات في العالم، في فيينا بالنمسا، وبقاياه محفوظة الآن في متحف التاريخ الطبيعي لتلك المدينة.
ويمكن للكونغا الركض أسرع من الخيول، وبالتالي فإن استخدامها لسحب العربات الحربية ربما استمرت بعد إدخال الخيول المستأنسة إلى بلاد ما بين النهرين، لكن في نهاية المطاف، ماتت حيوانات الكونغا الأخيرة، ربما لأن الخيول المستأنسة كانت أسهل في التكاثر.
مراجعة وتنسيق ناطق ابراهيم العبيدي