تفسير قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا..)
قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].
قوله: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ أي: الذين أعطيناهم الكتاب وأنزلناه عليهم، وهم اليهود والنصارى، وبخاصة أحبارهم وعلماؤهم.
﴿ يَعْرِفُونَهُ ﴾ أي: يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق رسالته، وما جاء به من عند الله من الوحي، ومن الأمر باستقبال المسجد الحرام.
﴿ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ الكاف للتشبيه، و"ما" مصدرية، أي: يعرفونه معرفة تامة كمعرفتهم أبناءهم.
وعبر بـ﴿ يَعْرِفُونَهُ ﴾ ؛ لأن المعرفة تتعلق أكثر بالذوات والأمور المحسوسة، قال تعالى: ﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ﴾ [المطففين: 24].
وخص الأبناء دون البنات؛ لأن معرفة الرجل بأبنائه الذكور أقوى لكثرة مخالطته لهم، وقوة تعلقه بهم.
قال ابن كثير[1]: "والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا، كما جاء في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه صغير: "ابنك هذا"؟ قال: نعم، أشهد به. قال: "أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه"[2].
وإنما كانوا يعرفونه كمعرفتهم أبناءهم، لما جاء في كتبهم من البشارة به صلى الله عليه وسلم وذكر صفاته، وكمال دينه، وفضيلة أمته، قال تعالى ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157].
﴿ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ أي: وإن فريقاً من أهل الكتاب، أي: جماعة منهم، وهم أكثرهم، وبخاصة أحبارهم وعلماؤهم.
﴿ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ ﴾ اللام للتوكيد، أي: ليخفون الحق، ولا يظهرونه، وهو ما في كتبهم التوراة والإنجيل، من البشارة به صلى الله عليه وسلم وصفته، وصدق رسالته، وما جاء به، وأن قبلته الكعبة، كما هي قبلة الأنبياء من قبله، كما قال تعالى عنهم: ﴿ وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 76].
﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ الواو: حالية، أي: والحال أنهم يعلمون الحق، ويعرفونه، كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك يكتمونه، وهذا أشد وأبلغ في ذمهم؛ لقيام الحجة عليهم، أي: يعلمون الحق ويعرفونه، ويعلمون أنه ليس لهم كتمانه، وقد قال الله عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 140].
ويؤخذ من قوله: ﴿ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ ﴾ أن فريقاً منهم لم يكتموا الحق، وهم يعلمون، وهذا الفريق منهم من آمن، ومنهم من كفر جهلاً.
قوله تعالى: ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [البقرة: 147].
قوله: ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ﴾ تقرير وتوكيد لما قبله، أي: الحق الثابت، الذي لا شك فيه ﴿ مِنْ رَبِّكَ ﴾ أي: من خالقك ومالكك ومدبرك، هو الذي أحقه وبعثك به، وأنزله عليك، ووجهك فيه إلى قبلة إبراهيم- عليه السلام- والأنبياء بعده.
والمراد بالربوبية هنا: ربوبية الله- عز وجل- الخاصة برسله وأوليائه.
﴿ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ أي: فلا تكونن من الشاكين- فيما أنزل الله إليك من الحق، وفيما وجهك إليه من قبلة إبراهيم والأنبياء بعده، واثبت على ذلك، ولا تبال بمن خالفه، من اليهود وغيرهم؛ من أهل الشك والارتياب، وفي هذا أعظم التثبيت له صلى الله عليه وسلم.
وليس في نهيه صلى الله عليه وسلم عن الامتراء ما يدل على وقوع شيء من ذلك منه صلى الله عليه وسلم، بل ولا على إمكانية وقوع ذلك منه؛ لعصمته صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهذا كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ [الأحزاب: 1].
المصدر: «عون الرحمن في تفسير القرآن»
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|