وسائل اكتساب الأخلاق (2)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فبعد أن تعرَّفنا على أثر الصلاة في الأخلاق، نتعرف على أثر بقية العبادات في الأخلاق، لنعلم أن الله تعالى عندما أمرنا بحسن الخلق أعطانا الوسائل التي تبني هذه الأخلاق، ومفاتيح الحصول على الأخلاق الإسلامية الفاضلة، فالعبادات ليست هي طقوس إلهية كطقوس البوذيين والهندوس والنصارى، لا دخل لها في حياتهم، ولا أثر لها في سلوكهم، بل فرضها الله علينا لنكون نحن المستفيدين منها، والنصوص الشرعية مليئة بالتحذير من تفريغ العبادات من أثرها؛ قال صلى الله عليه وسلم: (رب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والسهر، ورب صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)؛ رواه ابن ماجه بسند حسن، وقال صلى الله عليه وسلم: (ينصرف أحدكم من صلاته لم يكتب له إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها إلا سبعها، إلا ثمنها إلا تسعها إلا عشرها)؛ رواه أحمد بسند صحيح، وقال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)؛ رواه البخاري.
فالصيام يبني خلق نظافة اللسان؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا، فَلاَ يَرْفُثْ، وَلاَ يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ:إِنِّي صَائِمٌ)؛ متفق عليه.
والصيام يربي على النظام، فله وقت محدد وزمن محدد، وفيه التزامات محددة، وله نظام كامل للتعويض بالقضاء، وكم نحن بحاجة إلى النظام، وفي رمضان يعيش المسلم في جوٍّ اجتماعي واسع، ويكوِّن الوحدة الإسلامية التي تجمع المسلمين من مشارق الأرض إلى مغاربها، والصيام يقوِّي المسلم قلبيًّا ونفسيًّا بتغلُّبه على نفسه الأمَّارة بالسوء، بترك الأكل والشرب والمفطرات في نهار رمضان، ليتربَّى على الالتزام بعد رمضان.
أما الزكاة، فهي من أعظم وسائل تطهير النفس من البخل والشح والأنانية، وزرع معاني الفضيلة والألفة والرحمة والشفقة، ولهذا قال الله عز وجل: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]، لذا فإن الصدقة لا تُقبل إذا صحِبها أذى ومعايرة؛ لأن النفس التي بذلتها لم تطهَّر ولم تُزَكَّ؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 262، 263]، لاحظ تطهُّرهم وتزكِّيهم فهما يشملان كل تطهير وتزكية، سواء كانا ماديين أو معنويين، لروح معطي الزكاة ونفسه، ولماله وثروته.
والشحُّ آفةٌ خطرة على الفرد والمجتمع، قد تدفَع مَن اتَّصف بها إلى الدم فيَسفكه، وإلى الشرف فيَدوسه، وإلى الدين فيَبيعه، وإلى الوطن فيخونه، فلا أنجح من الزكاة في إزاحة الشح وغرس الكرم والعطاء في النفس؛ قال صلى الله عليه وسلم: (واتقوا الشُّحَّ، فإن الشُّحَّ أَهْلَكَ من كان قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ على أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ)؛ رواه مسلم.
والزكاة تدريب على الإنفاق والبذل، والذي يعتاد الإنفاق مما بيده لغيره، يبعد أشد البعد أن يعتدي على مال غيره ناهبًا أو سارقًا؛ لأن بذل لله فلا يريد سخط الله، والزكاة ترابط اجتماعي ومساواة بين المسلمين يربي على التواضع والوحدة، فتنتشر الرحمة والمواساة ويسود العطف.
الخطبة الثانية
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة)، أما بعد:
فأما الحج، فإننا نرى له أثرًا عجيبًا في إصلاح الأخلاق وتهذيب السلوك، كيف لا والله عز وجل يقول: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)؛ متفق عليه.
الحج يهذِّب النفس عن التكاثر والتعاظم والتفاخر، فالحجاج سواسية بلباس واحد، وموقف واحد، وطريقة واحدة، خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس في حجة الوداع، فقال: (أيها الناس، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى)؛ رواه أحمد بسند صحيح، وفي حجة الوداع قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عادات الفخر والاستغلال التي كانت قريش تفرِضها على بقية القبائل والميزات التي كانوا يخصون بها أنفسهم.
الحج يقوِّي الإرادة بمخالفة المعتادات في اللباس، وضبط السلوك أثناء النسك؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إن هذا يوم - يوم عرفة - مَن ملك فيه سمعَه وبصرَه ولسانه، غفر له)؛ رواه أحمد بسند صحيح.
الحج يعوِّد على الصبر، الصبر على أذى النسك والتعب وصعوبة اللباس والغربة وتصرفات الناس. مدرسة للصبر في الحياة؛ لنصبر على أذى الناس في حياتنا، نصبر على أذى أهلنا، وتصرفات الجاهلين.
الحج نظام في الإحرام والمواقيت، نظام في الحركة بين المشاعر ونزول الأماكن، نظام في الطواف والسعي، نظام في توقيت المناسك، عِبَرٌ تعلِّمنا وتعوِّدنا النظام في حياتنا.
الحج يعوِّد على البذل في سبيل الله بالنفقة، فتتعود النفس الكرمَ والعطاء والجود في سبيل الله ومشاريع الخير.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|