في دلالات الهجرة النبوية وحاجاتنا المعاصرة
لا نزال بحاجة إلى استيعاب دلالات الهجرة النبوية المشرفة؛ إذ يتعدَّى تأريخها كونها حادثةً زمانية، ولكنها فلسفة تتجاوز حدود الزمان والمكان، وهو ما يجدُه الكاتب في ازدياد متصل وَفْق مقتضيات العصر وتحدياته الراهنة، حتى تبدو لنا - ومن جديد - وكأنها المَعْلَم الكبير لنا كما لغيرنا؛ إذ خلالها ما يشار إليه من كيفية التغلب على الظروف والمشاقِّ، والتحديات الداخلية والخارجية المتربصة ببدايات الرسالة، وما أشبه حالَ الأمس باليوم، وما عرَفناه عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من مرونة التخطيط ودقته في استيعاب المتغيرات المحيطة، بجانب حزم الإرادة الجادَّة نحو التنفيذ والتنظيم، وهي أمورٌ لا تنفصل عن إدراك ووعي لجلل الأمر المتعلِّق برسالة الإسلام وإنجاز مهمته الإنسانية الكبرى، وهو الحاضر بيننا الآن، والمتعلق بما يواجه تلك الرسالة من أخطار وظروف؛ أي ما يتطلب استعادة استعدادات الهجرة، ونحن هنا نُذكِّر بحاجتنا لهجرة داخلية أو دولة معاصرة متطورة، كما نذكر بحاجتنا لهجرة فكرية خارجية لغيرنا، وهم في أمسِّ الحاجة إليها، الآن لا غدًا.
يأتي اضطهاد الكفار للمؤمنين مثلما كان في قصة آل ياسر الشهيرة - من أهم الأسباب الداعية لاستعادة فلسفة الهجرة وإعادة البناء الحالية، أما حاليًّا، فهنالك تلك الحروب الممنهجة إعلاميًّا ضد رسالة الإسلام، وفي ذلك ما تسردُه دراسة الباحث (أحمد مصطفى علي)، من أن هنالك عَلْمَنة للصورة المشوهة التي يجري تصويرها للرأي العام الأوروبي عنا؛ حيث تم تحويل الصورة إلى حقيقة علمية، بجانب تنشئة الأجيال الجديدة على كراهيةِ الآخر واستحقاره، وفي هذا ما ترصده مراكز أوروبية وأمريكية تضم آلاف الباحثين لدراسة وتحليل ما في العالم الإسلامي من العقيدة والفنون، إلى الزراعة والأمثال والأغاني الشعبية.
ووَفْق شهادات كُتَّاب الغرب - وما يذكره المترجمون - فقد تعمَّدتْ مؤسساتُ نشرٍ خارجية انتقاء الأعمال الأدبية المبتذَلة التي تُصور العربيَّ على أنه متخلف؛ لتأكيد صورة ذهنية سلبية للرأي العام العالمي، ومنع تعاطفه مع السياسات المضادة المنفَّذة في العالم الإسلامي.
وأما الآن، فلعلنا نلاحظ هذا الكم المتكرِّر من الرسوم المسيئة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، أو ما يتم إجراؤه - وباستمرار - من حين لآخر، في خِضم تغييب حقيقة نبيِّ الرحمة المعاصرة لدى الغرب، بل ولدينا؛ أي: لدَى أجيال جديدة، تسرقها من بين أيدينا تلك الآلةُ الإعلامية الفجة.
نستشعر من قصة الهجرة وترتيباتها أبعادَ ذلك التخطيط الدقيق الذي سبقه التوكُّلُ والعزيمة، ثم تلاه الأخذُ بالأسباب، فأبو بكر تشوَّق للهجرة، وهو أمر بالغ الأهمية، بجانب استئجار دليل خبير ماهر مؤتمن، تسلَّم الراحلتين، يعتني بهما حتى تأتي الساعة الموعودة، ثم رتب مع عامر بن فُهَيرة - مولاه - أن يرقبَهما ويروح عليهما في الغار بمنيحة أبي بكر كلَّ يوم ليشربا لبنها، ولتختفي آثارُ أقدامهما تحت أرجل الغنم، وكلَّف ابنَه عبدَالله أن يأتيَهما كل ليلة محاذرًا؛ ليخبرهما بما سمع من حديث المشركين وتدبيرهم، وكلَّف أسماء ابنتَه أن تعد سفرةَ رسول الله بما سيحملانه في هذه الرحلة من زاد وماء، وفي ذلك خطورة بالغة، وذلك يبيِّن ضرورة أن تستعين الأمة الإسلامية بالخبراء في كافة المجالات، وليس أن تشتري الحداثة والصناعة والسلاح كيفما يَبيعه الغرب لها، ولا شك أنها في البداية ستحتاج لدليل أمينٍ وذي ثقة مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كان على دين مُخالف.
لا شك أن ما واجه الرسولَ صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته وهجرته من مصاعب وعراقيل ومخاطر، يواجه الأمة الإسلامية حاليًّا في طريق نهضتِها؛ إذ هي أمام استعمار جديد برُوح مغايرة وطرق مستحدَثة، والذي لا يرغَب في أن نستقلَّ تمامًا أو نستغني عنه، أو أن ننطلق إلى غايات السماء، وكيفما كشفت الكتب المؤسِفة التي سطَّرها العالِم الأمريكي الشهير "صموئيل هنتجتون" في نظريته "صدام الحضارات".
عندما استقبلتِ المدينةُ الإسلامَ، دخل في الدين الجديد عددٌ من أهلها، وشجَّع الرسول صلى الله عليه وسلم على التوجه إليها، أضِفْ إلى ذلك دورَها الأساسي باعتبارها مركزًا حضاريًّا تِجاريًّا وزراعيًّا، مع كونها ملتقى القوافل التي كانت تمرُّ من الشام واليمن، وهذا جعلها مؤهَّلة أن تلعب ذلك الدور بالنسبة لانتشار الدعوة الإسلامية، والآن يمتلك العالم الإسلامي ثرواتٍ ينظر لها العالم أجمع نظرةَ استغلال وهَيْمنة، كما يمتلك موقعًا بالغ الخطورة للتجارة والاقتصاد العالمي، وهو ما يؤهله لأن يكونَ لاعبًا محوريًّا حال اتحاده وتعاونه نحو أهداف الرسالة السامية لسلام الكون أجمع.
لكن تبقَّى من العوامل الأخرى المهمة والمفقودة حاليًّا ما اتَّسم به أهل المدينة من مروءة ورجولة، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قولته المشهورة: ((لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار))؛ إذ إن مشكلةَ عالَمِنا الإسلامي المعاصر - وفي خِضم التغريب وهيمنة الأفكار الغربية - أن دُمِّرت فيه الكثير من القيم والعوامل الإيجابية لدى جُل أبنائه.
هذا، وأما بعد المؤاخاة فكانت الصحيفة، وهي الدستور الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم لتنظيم الحياة في المدينة، وتحديد العَلاقات بينها وبين جيرانِها، هذه الوثيقة لم يُمْلِها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إملاءً، وإنما كانَتْ ثمرةَ مناقشات ومشاورات بينه وبين أصحابه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، وكلما استقرُّوا على مبدأ قام الرسول صلى الله عليه وسلم بإملاء نصِّه على سيدنا علي، وشيئًا فشيئًا اكتمَلَت الوثيقة، وأصبحت دستورًا للجماعة الجديدة، ولا يكاد يُعرف من قبلُ دولةٌ قامَت منذ إنشائها على أساس دستور مكتوب غير الدولة الإسلامية الجديدة.
وأخيرًا نُشير إلى أهم الدروس المستفادة من الهجرة النبوية الشريفة؛ فمن ذلك:
• اختيار البيئة الصالحة للدعوة، والتي يسايرها حاليًّا كيفية ملاءمة أدوات الدعوة مع كل بيئة، والأخذ بالأسباب.
• أن نراعي معايير علوم السياسة والاقتصاد، ومحاولة تضليل العدو، وجواز الاستعانة بالمُشرك لتحقيق مصلحة إسلامية، مما هو متفق عليه حاليًّا، وحسن اختيار الصاحب في السفر، وهو أمر تؤكده التكتُّلات والتحالفات والاتحادات الدولية، وهنا نشير لأهمية تطوير جامعة الدول العربية ورابطة العالم الإسلامي، وكيف يمكن أن يُسايرَا التحديات المعاصرة.
• يجب مراعاة سلامة القيادة حتى على أصغر مستوياتها، والتي يجب أن يراعي أداؤها وقدراتها طبيعةَ التحديات الراهنة.
• الإخاء بين المسلمين، وهو ضرورةٌ يجب الأخذ خلالها بالمعنى الأكثر شمولية واتساعًا للإخاء الإنساني كرسالة وصورة وشعار للدين الإسلامي نحو العالم.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|