السيرة النبوية: السيدة خديجة رضي الله عنها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، من الناس من لا يحب الأضواء، ولا يغريه الظهورُ الإعلامي، ولا يسعى إليه، ولا يهتم لشأنه، فهم يعشقون التأسيسَ والبناء، ووضعَ الأحجارِ الأولى، يهتمون للبدايات، ولا يهتمون للنهايات، فالنهايات يشهدها من عمل من أجلها، ومن لم يعمل، أما البدايات، فلا يقف فيها إلا الصابرون الصادقون المتوكلون، لا تُغريهم الاحتفالات، ولا السيرُ تحتَ أقواسِ النصرِ على خيولهم، ولا تقليدُ الأوسمةِ على صدورهم.
ومن هؤلاء سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم، ووقف إلى جانبه، حتى إذا أصابته جراحة شديدة في معركة الخندق، قال بعد رجوع الأحزاب وانتصار المسلمين: "اللهم إن كنت قد وضعت الحربَ بيننا وبين قريش، فافجرها يعني جرحه واجعل موتي فيها"، كان غير مهتم لرؤية النصر العظيم، ولا أن يقلدَ إكليلَ الفتحِ الكبير، كان يريدُ قتالَ قريشٍ وجهادها، وإضعافَ قوتها، فهي العدو الأكبر للمسلمين يومئذ، ونهايةُ قوتها يعني زوال القوة الكبرى في طريق الإسلام، وهذا ما كان يريده، ويسعى إليه، فما بعد قريش يبقى أهونَ وأقل.
ومن هؤلاء الذين يعشقون البدايات ولا تعنيهم النهايات، وهو هنا بيت القصيد، امرأة وليس رجلًا.
إنها السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين، وأول أزواج نبي رب العالمين، وأم أولاد النبي صلى الله عليه وسلم المطهرين القاسم، وعبدالله، وزينب، ورقية، وفاطمة، وأم كلثوم، المرأةُ التي عرفت محمدًا قبل النبوة وبعدها.
المرأةُ التي شهِدت بواكير الوحي وبواكير النبوة، عيناها أول عينين أبصرتا نور النبوة في محيا محمد صلى الله عليه وسلم، وقلبها أولُ قلبٍ آمنَ به، ولسانها أول لسان نطق بالكلمة التي يُحب بشهادةِ التوحيد، رأت قلقه وخوفه، وخشيته مما كلف به، سمعته يقول: "دثِّروني دثِّروني"، وسمعته يقول: " زمِّلوني زمِّلوني"، هي أول من آمن وآزر، ونصر وصدق، آمنت أول ساعة، وحتى اليوم الأخير..
خديجة بنت خويلد المرأة التي كانَ ينالُها ما ينالُ النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى، إن وضع في طريقه شوكٌ فقد وضعَ الشوكُ في طريقها، وإن وضع أمام بيته أذى، فقد وضع الأذى أمام بيتها، فطريقهما واحدٌ وبيتهما واحد.
لا ينالُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أذًى إلا نالها بطريقةٍ أو بأخرى.
هذه المرأة رغم كل المضايقات التي كانت تنال النبي صلى الله عليه وسلم، لم يصدر منها جهالةٌ على أحدٍ، أو انتقامٌ من أحدٍ، أو أنها أساءت إلى من آذاها، أو آذى زوجها، وغير ذلك كانت كأي أم تفرحُ لتزويج بناتها، وزفافهنَّ إلى أزواجهنَّ، وهي تعد ابنتيها رقية وأم كلثوم إلى زوجيهما، إذ بها تُصدمُ بطلاقهنَّ وفراقهنَّ، لا لشيء إلا لأنهنَّ بناتُ محمد صلى الله عليه وسلم.
وكلُّ أمرِ الله خير، وكلُّ بلاءٍ يقعُ على النبي صلى الله عليه وسلم كان يقعُ عليها بعضٌ منه، فقد ابتلي صلى الله عليه وسلم بوفاة أبنائه واحدًا بعد آخر، وخديجة نالها ذلك، فقد مات القاسم، ثم مات عبدالله وهي صابرةٌ محتسبة.
دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم بعد موتِ القاسم، وقد مات وعمره سنة، فوجدها تبكي، فقالت: يا رسول الله درَّت لبينةُ القاسم، فلو كان عاش حتى يستكمل رضاعه لَهُوِّنَ عليَّ، فقال لها: "إن له مرضعًا في الجنة تستكمل رضاعته وإن شئت أسمعتُكِ صوته في الجنة"، فقالت: بل أُصدِّق الله ورسوله".
ولو بحثنا في كل كتب السيرة، ما وجدنا غيرَ أخبارٍ قليلة شحيحةٍ عنها، وهي على نُدرتها إلا أنها تبيِّن لنا أي امرأةٍ عظيمةٍ كانت هي رضي الله عنها.
ففي سنن النسائي عن أنس رضي الله عنه قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقرئ خديجة السلام، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول الله السلام، وإن ربنا هو السلام"، وإن ربنا هو السلام، هذا جوابٌ بديعٌ لا ينطقُ به إلا ذو عقلٍ وافر، ولعلها أول من أجاب بهذا الجواب، ولعلها أيضًا أول من تعرض لهذا الموقف، وآخر من تعرض له أيضًا، وإن ربنا هو السلام.
امرأة تعيش في أنوار النبوة، ينزلُ الوحي في بيتها صباحَ مساء، كيف لا تجيب بهذا لجواب الرائع المدهش.
إنها رضي الله عنها يصدق فيها قول أبي العتاهية:
ولم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحدٌ غيره
لزلزلت الأرض زلزالها
وظلت حياتُها في صبرٍ وتحمُّل، حتى جاءتها الساعةُ الأخيرة، فغادرت الدنيا، ولم تكحل عينيها برؤية دين الله منتصرًا، ولا بنبي الله ظاهرًا على أعدائه، وقد كانَ لها فضلُ وضعِ اللبنة الأولى، والمشاركة الأولى، والوقوف إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم في أشد الساعات، وأصعبِ الأوقات، كان موتُها شديدًا على النبي صلى الله عليه وسلم، فحزنَ عليها، وحزنَ عليها المسلمون، ويسمى العامُ الذي ماتت فيه "عام الحزن"، وإنها لتستحق أكثرَ من ذلك، فهي المؤمنة الأولى، والزوجة الأولى، وأم المؤمنين الأولى، ومنها كانت ذرية محمد صلى الله عليه وسلم.
واسَت النبي صلى الله عليه وسلم بنفسها ومالها، وكانت نِعمَ الرفيق، ونِعمَ الصاحب، فاللهم ارحَمها واغفر لها، وأكرمها بأعظم الثواب عن مناصرتها وتصديقها لرسولك صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنبٍ وإثم وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية الحمد لله فاطر السماوات والأرض، والصلاة والسلام على محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن والاه..
كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فسمِعَ صوتَ امرأةٍ تستأذنُ بالدخول عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم هالة"، يعني هالة بنت خويلد أخت خديجة رضي الله عنها..
كان يحب استئذانها لأنه يذكِّره بخديجة، وبدخول خديجة، وصحبة خديجة رضي الله عنها..
في يومٍ آخر جاءت إليه امرأةٌ عجوزٌ تسلم عليه - عليه الصلاة والسلام - فأجلسها إلى جواره وهشَّ لها وبشَّ، وصار يسألها عن حالها، وحال أهلها وأبنائها: "كيف أنتم، وكيف أنتم بعدنا"، حتى خرَجت من عنده، فسألته أم المؤمنين عائشة عن سرِّ هذه الحفاوة بهذه المرأة العجوز، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسنَ العهدِ من الإيمان"، زمنِ خديجة، ويُسمي الأزمانَ باسمها.
ومما كان يفعله عليه الصلاة والسلام أنه يذبح الشاة، فيفرقها على صواحب خديجة رضي الله عنها...
وسألته عائشة يومًا عن هذا الذكر الدائم لخديجة بعد كل هذه السنوات، وكأنها لا تزال تعيش معه، فيجيب عليه الصلاة والسلام: "إني قد رُزِقت حبَّها"، يصرحُ بحبه لها عليه السلام، فهل صرح رجل بحبه لزوجته كما قال يفعل عليه الصلاة والسلام ولا يخجل من ذلك.
ولم يقف حبه صلى الله عليه وسلم عن مجرد الذكر لها، بل تعداه إلى الإحسان إلى صاحباتها، وتعهدهنَّ بالهدية والعطية، بين حين وآخر، فهل يفعل الناس اليوم مثل هذا؟
إن المؤمن الذي يخشى الله تعالى، يعرف أن للمرأة حقًّا عليه، كما أن له حقًّا عليها، وأنه يقف عند هذا الحق، ويقدِّره لها، فهي مَن تقوم بيته، وبطعامه وشرابه، ولباسه وضيوفه، وتربية أبنائه، وغيرها مما لا يستطيعُ الرجلُ القيامَ به.
إن في تعامله عليه الصلاة والسلام مع أم المؤمنين في حياتها، وبعد موتها، نموذجٌ لمن أراد الاقتداءَ، ولمن أرادَ الوفاء، ولمن أراد العدلَ مع أهل بيته، " ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21].
اللهم اشف مريضنا واقضِ ديننا، وأدِم علينا نعمة الصحة، والأمان والعافية، وارزقنا رزقًا حسنًا، وبارك لنا في أبنائنا، واستر نساءنا، اللهم أصلح أحوالنا، وأحوال المسلمين، وأصلح إمامنا وأئمة المسلمين، اللهم ارفع الظلم عن المظلومين، ورد الحق لأصحابه، وانتقِم بقوتك وجبروتك، من الظالمين والمعتدين، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم تقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتُبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربك ربِّ العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|