خطبة عن القبر (1)
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يزل بالنعم مُنعمًا، وبالمعروف معروفًا، وبالإحسان مُحسنًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يكشف كربًا، ويغفر ذنبًا، ويُغيث ملهوفًا، ويجبر كسيرًا، ويجير خائفًا، ويرسل بالآيات تخويفًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عليه الصلاة والسلام وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد عباد الله: فـ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران: 2].
أيها المسلمون، ما أقصر عُمر الدنيا وما أسرع مروره، فمهما طال الليل لا بد من طلوع الفجر، ومهما طال العمر لا بد من دخول القبر.
الموت بابٌ وكل الناس داخله
يا ليت شعري بعد الموت ما الدارُ
الدار دار نعيمٍ إن عملت بما
يُرضي الإله، وإن فرَّطت فالنار
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد اللهُ عز وجل بعبْدٍ خيرًا عَسَلَه))، قيل: وما عَسَله؟ قال: ((يفتَح الله عز وجل له عملًا صالحًا قبل موته ثم يَقْبِضُه عليه))، وفي الدعاء: اللهم اجعل خير عُمري آخره وخير عملي خواتمه.
ها هو رجل من الصالحين كان إمامًا لأحد المساجد، وفي يوم من الأيام خرج كعادته من بيته متوجهًا إلى المسجد ليصلي صلاة الظهر، وبعد أن صلى السنة القبلية وقرأ شيئًا من القرآن، أُقيمت الصلاة وتقدَّم ليُصلي بالناس، وفي الركعة الثالثة في السجدة الثانية سمع الناس مثل الجشاء عبر مكبرات الصوت، وهم يقولون: سبحان الله سبحان الله، فتقدَّم أحدهم وأكمل الصلاة، وحرَّكوا إمامهم وقد صعدت رُوحه إلى بارئها. الله أكبر إنها الخاتمة الحسنة التي لا تأتي إلا من حُسن عمل، وصلاة على وقتها، وفعلٍ للخيرات، وأداء للحقوق، وأكل للحلال.
فلا حول ولا قوة إلا بالله إذا نزل بنا ملك الموت لقبض أرواحنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا فارَقنا الأهل والأصحاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا أُدخلنا في قبورنا مع أعمالنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا طال يوم القيامة وقوفنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا استدعانا للحساب ربنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا تطايرت يوم القيامة صحائفنا.
اللهم إنا نسألك أن تُجيرنا من عذاب القبر، اللهم ارزُقنا أعمالًا تُبيض وجوهنا يوم نلقاك يا رب العالمين.
عباد الله: إن القبر له ظُلمة شديدة، قال عليه الصلاة والسلام ذلك عندما ماتت المرأة التي كانت تَقُمُّ المسجد في عهده، ففقَدها، فأخبروه أنها ماتت من الليل، ودفنوها، وكرِهوا إيقاظه، فطلب من أصحابه أن يَدُلوه على قبرها، فجاء إلى قبرها، فصلى عليها، ثم قال: «إن هذه القبور مليئة ظُلمة على أهلها، وإن الله تعالى منوِّرها لهم بصلاتي عليهم»؛ [متفق عليه].
إن للقبر لضمَّة، لا ينجو منها أحد كبيرًا كان أو صغيرًا، صالحًا كان أو ظالِمًا، ولو نجا منها أحد، لنجا منها سعد بن معاذ، كما قال عليه الصلاة والسلام، سعد بن معاذ رضي الله عنه ذلك الذي تحرَّك لموته عرش الرحمن، وفُتحت له أبواب السماء.
القبور عباد الله مدرسة يتعلَّم منها المسلم الكثير من الدروس والعبر. القبور تُذكِّرنا بالآخرة وبقصر أعمارنا، قال: «ألا وإني قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تُذكِّركم بالآخرة»؛ [أخرجه النسائي].
القبور تغرس في قلوبنا أنَّ الناس سواسية لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى.
عباد الله، اذهبوا إلى القبور وتأمَّلوا هل تفرِّقون بين غني وفقير، بين عزيز وذليل، لا فرق بينهم.
أتيتُ القبور فناديتُها
أين المعظَّم والمحتقر
تفانوا جميعًا فما مُخبرٌ
وماتوا جميعًا ومات الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى
فتَمحو محاسنَ تلك الصور
فيا سائلي عن أُناسٍ مضَوا
أما لك في ما مضى مُعتبر
وفي الحديث: كنَّا معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في جِنازةٍ، فجلسَ على شَفيرِ القبرِ، فبَكَى، حتَّى بلَّ الثَّرى، ثمَّ قالَ: يا إِخواني لمثلِ هذا فأعِدُّوا.
أسأل الله أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، وألا يجعلَها حفرة من حفر النار إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا محمدًا الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه وجميع إخوانه.
عباد الله، كلنا زُرنا المقابر وشيَّعنا آباءً وأمهات أحبابًا وأصحابًا، هل أخذ الغني من ماله شيئًا في قبره؟ هل أدخل أحدٌ معه سراجًا أو نورًا؟ لا والله لا نور ولا سراج إلا نور العمل الصالح.
عباد الله، لو أُذن الله لأهل المقابر أن يخرجوا من قبورهم ليقولوا: لا إله إلا الله، لكانت هذه الكلمة خيراً من الدنيا وما فيها.
يا أهل الدنيا، أنتم في عمل ولا حساب، أما أهل المقابر فهم في حساب ولا عمل.
فالميت ينطلق معه إلى قبره ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله، وصدق الله القائل: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39].
والله لو عاش الفتى من عمره
ألفًا من الأعوام مالك أمره
متنعمًا فيها بكل نفيسةٍ
متنعمًا فيها بنُعمى عصره
لا يعتريه الهم طول حياته
كلا ولا ترد الهموم بصدره
ما كان ذلك كله في أن يفي
بمبيت أول ليلةٍ في قبره
الله المستعان، البيت الذي ظل أحدنا يبنيه سنين طويلة تركه ليَسكنه غيره، الزوجة التي قضى معها سنين طويلة وربما فضَّلها بعضهم على أمه، هذه الزوجة ربما تزوَّجت غير زوجها، المال الذي جمعه قُسِّم بين الورثة.
عباد الله، ما أصعب بناء بيت الدنيا وما أسهل بناء بيت الآخرة؛ يقول صلى الله عليه وسلم: «من صلى لله ثِنتي عشرة ركعة تطوعًا من غير الفريضة، بنى الله له بيتًا في الجنة»؛ [رواه مسلم]. وقال: «من قرأ سورة الإخلاص عشر مرات بنا الله له قصرًا في الجنة»؛ [أحمد].
وشتان بين بيت اللبِن والأحجار، وبيت الذهب والفضة، شتان بين بيت بناه البشر وبيت بناه ربُّ البشر.
سلْ غنيَّهم ما بقي من غناه؟ وسل فقيرهم ما بَقِيَ من فقره؟ واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون، واسألهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان تحت الأكفان؟ عفِّرت الوجوه، ومُحيت المحاسن، فأين خدمهم وعبيدهم؟ وجمعهم وكنوزهم؟ أليسوا في منازل الخلوات؟ أليس الليل والنهار عليهم سواءً؟ أليسوا في حُفرٍ ظلماء؟ قد حيلَ بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والمال والأهل.
فيا ساكن القبر غدًا! ما الذي غرَّك من الدنيا؟ أين دارُك الفيحاءُ ونهرك المطرد؟ وأين ثمارك اليانعة؟ وأين رقاقُ ثيابك؟ وأين طيبك وبخورك؟ وأين كِسوتك لصيفك وشتائك؟
ها هو أحد التابعين وهو يزيد الرقاشي كان يحاسب نفسه كل يوم، ويتذكر الآخرة، ويقول: «ويْحَك يا يزيد، من ذا يصلي عنك بعد الموت، من ذا يصوم عنك بعد الموت، من ذا سيتصدق عنك بعد الموت، مَن الموت طالبه، مَن القبر بيته، من الدود أنيسُه، من التراب فراشه، مَن مُنكر ونكير جليساه».
تصوَّر نفسك يا عبد الله وقد جاءك الموت وأصبحت محمولًا على الأكتاف، فيا ليت شعري، ما تقول جنازتك؟ هل ستقول: قدِّموني قدموني، أم ستقول: يا ويلها أين تذهبون بها؟
ثم تصور يا عبد الله وأنت تدخل المقبرة لا زائرًا ولا حاملًا بل محمولًا ميتًا، فتخيَّل أحب الناس إليك وأقرب الناس إليك وهم يُنزلونك إلى قبرك، ويضعون اللبن ليغلقوا قبرك، فغاب الضوء عنك، ثم بدؤوا يَحثون على قبرك التراب ويقول أحدهم: استغفروا لأخيكم وسلوا له الثبات، فإنه الآن يُسأل، ثم ذهبوا وتركوك وحيدًا فريدًا في ذلك الظلام، من فوقك تراب، ومن تحتك تراب، وعن يمينك تراب، وعن شمالك تراب، ثم تعاد روحك إلى جسدك، ويأتيك منكر ونكير، فيُجلسانك ويسألانك: مَن ربك؟ ما دينك؟ مَن نبيُّك؟ فإن كنت من الصالحين الصادقين التائبين، فإن الله سيثبتك، فهو القائل: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]. فتقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد، فينادي منادٍ من السماء: «أن صدق عبدي فافرشوا له من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له نافذة إلى الجنة»؛ ثم يُفسح لك في قبرك مد البصر، ثم يأتيك رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الرائحة، وهو عملك الصالح وهو أنيسك في قبرك.
أمَّا إن كان العبد والعياذ بالله كافرًا مُضيِّعًا لدينه، تاركًا للصلاة آكلًا للحرام، فاعلًا للمنكرات ومات على ذلك، فإنه سيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء أن كذب عبدي، فافرشوا له من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له نافذة إلى النار، ويُضيَّق عليه في قبره حتى تَختلف أضلاعه، ثم يأتي إليه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، قبيح الرائحة، وهو عمله السيئ وهو رفيقُه.
أخي، نعوذ بالله أن نكون من الذين: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ [محمد: 27].
أخي الحبيب، ماذا أعددت لأول ليلة تَبيتها في قبرك؟ أما علمتَ أنها ليلة شديدة، بكى منها العلماءُ، وشكا منها الحكماءُ، وشمَّر لها الصالحون الأتقياء؟
هذا وصلُّوا وسلِّموا على محمد المصطفى والرسول المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|