دروس وعبر من سير الصحابة الكرام (2)
هذه الحلقةُ الثانية من الدُّروس والعِبَرِ التي نَقِفُ عليها من سِيَرِ الصحابة - رضوانُ الله عليهم - وسأُورِدُ في هذه الحلقات أخبارَ بعضِ الصحابة العَطِرَة التي نَلمَس فيها الإيمانَ العميق الراسِخ، وحُبَّ الله - سبحانه - وحبَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - والتي يظهَرُ فيها ثَباتهم على الحقِّ في مختلف الظُّروف، وقِيامهم بالعمل الصالح، وإيثار ما عندَ الله على مَتاع الحياة الدُّنيا وعلى الأهل والمال والوطَن ونحو ذلك.
سأُورِدُ بعضَ هذه الأخبار - وما أكثَرَها! - ليَأخُذ مَن يَطَّلعُ عليها من جِيلنا الدُّروسَ والعِبَر، وليَعرِف مَن يطَّلع عليها فضلَهم العظيم، وليسيرَ على طريقهم الذي هو طريق الإسلام.
وقبلَ ذلك أُورِد تعريفَ (الصحابي) عند أهل السُّنَّة والجماعة، وأُبيِّن أنَّ الصحابة درجاتٌ؛ فهم - رضِي الله عنهم وأرضاهم - ليسوا سواءً.
وفي ذلك كلِّه بيانٌ لفضلهم وتقريرٌ لمكانتهم.
إنهم - جميعًا - عدولٌ بتزكية الله - تبارك وتعالى - لهم؛ كما جاء في كتاب الله - تعالى.
وصُحبة هذا النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - شرفٌ عظيم، ومَنقَبةٌ عُظمَى، أكرم الله بها هذا النَّفَرَ الكريم المحظوظ، على نحوٍ لم يحظَ بها آخَرون.
كما يودُّ المسلم الصادق الذي لم يلقَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو أنَّه أدرَك ذاك العَصر؛ فكان خادِمًا لهذا النبيِّ الكريم، يعيشُ معه - صلى الله عليه وسلم - ويَشهَدُ تنزُّل الوحي عليه، ويشهَد هذا المستوى الرفيع من الأخلاق والمعاملة التي كان عليها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
هنيئًا للصحابة الكرام ذلك الشَّرَف العظيم الذي حازوه، وكانوا له أهلاً.
فقد قاموا بأداء الأمانة، وكانوا مُسارِعين إلى طاعة الله ورسوله، مُمتَثِلين قولَ الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
وكانوا مُسابِقين إلى طلَب المغفرة من الله والجنَّة، ممتثِلين أمرَ الله: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21].
يَدُلُّ على ذلك طاعتُهم أمرَ الله في اجتناب الخمر لَمَّا نزَل قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون ﴾} [المائدة: 90- 91]، فقالوا: انتهينا يا رب، انتهينا يا رب؛ [انظر: "مسند أحمد" 1/53 و2/351، و"سنن أبي داود" برقم 3670، و"سنن النسائي" 8/286-287 و"جامع الترمذي" برقم 3050].
وتذكُر كتب السنَّة أنهم سارَعوا إلى إهراق ما في بُيوتهم من دِنان الخمر حتى جرتْ بها سِكَكُ المدينة؛ [انظر: "صحيح البخاري" برقم 4611، 4620].
وقد أراد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُدخِل السُّرور على أمثالنا ممَّن لم يُتَحْ لهم شرفُ الصُّحبة بسبب مُرور الزمان، فجعَل المسلمين كلَّهم إخوانه؛ كما جاء في حديث أبي هريرة الذي أخرَجَه مسلمٌ برقم 249، وابن ماجه برقم 4306، وهو حديثٌ جميلٌ قائمٌ على الحوار؛ عن أبي هُرَيرة - رضِي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخَل المقبرة فقال: ((السلامُ عليكُم دارَ قومٍ مؤمنين، وإنَّا - إنْ شاء الله - بكم لاحِقون، وَدِدت أنَّا رأينا إخواننا))، قالوا: أوَلَسْنا إخوانَك؟! قال: ((أنتم أصْحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعدُ)).
قالوا: كيف تعرفُ مَن لم يأتِ بعدُ من أمَّتك يا رسول الله؟
فقال: ((أرأيت لو أنَّ رجلاً له خيلٌ غرٌّ محجَّلة بين ظَهراني خيلٍ دُهمٍ بُهمٍ، ألا يعرف خيلَه؟)).
قالوا: بلى يا رسولَ الله.
قال: ((فإنهم يَأتُون غُرًّا محجَّلين من الوضُوءِ...)) الحديث.
وهذا شرفٌ لِمَن رُزِقَ ذلك، جعَلَنا الله منهم.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|