العرب أهل فصاحة وبيان
قبل أن نلج إلى الروضة النبوية المباركة، وننال شرف الصحبة الميمونة المطهَّرة، نضع بين يدي هذا الوصف الكريم أمرًا هامًا والتي نفهم من خلاله هذا الوصف الشريف، وهو: أن العرب أهل فصاحة وبيان، عرجوا في منازل البلاغة، وارتقوا إلى ذُرى الفصاحة، واستوى في ذلك رجالهم ونساؤهم، ولقد كانوا في الوصف لا يُبَارَون، يرسمون باللسان ما تعجز عن رسمه الألوان، ويقفون على دقائق الأمور وخبايا النفوس، ويلمسون عن قرب صورة الموصوف، فيحيطون بأبعادها وحدودها من أول وهلة، فتنطبع تلك الصورة بمجرد الرؤية في حافظتهم، على حالتها التي رأوها عليها. ثم إذا طُلب إليهم وصف، أو سُئلوا نعتًا، راحوا يستحضرون الصورة أمام أعينهم، فيصفون من خلالها، وكأنهم يرون صاحبها رأي العين، أو كأن شخصه ماثل بينهم، لا ينقصه إلا روحه، ولا يفارقه من هيئته إلا بمقدار تباعد الزمان بين التقاط صورته وتخزينها في الذاكرة، وبين استحضار الصورة وامتثالها. وهذه المقدرة العجيبة كانوا يتفاوتون فيها تفاوتًا، لا يعدو أن يكون كتفاوت آلات التصوير من حيث، جودة الصورة، ومدى مطابقتها لصاحبها. وإذا كان من المعلوم أن أداة التصوير واحدة عند العرب جميعًا، لا تميُّز لأحد فيها على أحد، إلا بمقدار قدرة صاحبها على استعمالها وإتقان استخدامها، وإذا توافرت هذه القدرة وذلك الإتقان، لا يبقى إلا وقع صاحب الصورة في نفس من يصوِّره، ومدى تأثُّره به، وانفعاله بصورته، فالواحد منا قد يرى الشخص لأول مرة، فإذا ما فارقه فإنه يفتش في ذاكرته عن ملمح من ملامحه، يستدني به صورته، ويقرب به هيئته، فلا يجد إلى ذلك سبيلاً، إلا أن هناك مَن له في القلوب مكان يتبوؤه من أول وهلة، ومَن ملك النفوس وتمكَّن منها بمجرد رؤيته، بما يتسم به من حسن الصورة، وبهاء الطلعة، وجمال الهيئة، واتساق الخلق فإنه يجذب النفوس إليه بمقومات الجمال تلك بلا فتنة، فإذا زيد إلى هذا طهارة السيرة، ونقاء السريرة، وسمو الأخلاق، ونبالة الطباع، وحسن الشيم، كان له في القلوب فعل عجيب، فتنبعث منه إشارات نورانية، وإشعاعات روحانية يتلقاها الرائي، فتتفجر فيه رغبة عارمة في ألا تفارق هذه الإشعاعات عينيه، ولكن ليس له ذلك سبيل، إلا أنه لا يفقد الأمل، وخاصة أن الصورة قد انطبعت واستقرت في المخيلة، فيسترجعها بعد الفراق؛ ليستدني صاحبه ويستحضره. وهذا بالفعل كان حال الصحابة رضي الله عنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل واحد منهم انفعل بصورة النبي صلى الله عليه وسلم وشخصه، فكان له وصف دقيق للنبي صلى الله عليه وسلم، أو إن شئت قلت: لقطة لصورته وحاله، فهذا يلتقط صورة له على حالة معينة وفي وقت معين، وهذا يلتقط له أخرى في حالة أخرى ووقت آخر، وثالث.. ورابع.. فيصف كل واحد منهم تلك اللقطة على تلك الحالة في ذلك الوقت.. وهكذا تتعدد اللقطات والمشاهد، وليس هناك تباين في جوهرها. أما الاختلاف الظاهري الطفيف بين هذه اللقطات، فيرجع إلى اختلاف الحالات والأوقات وتعددها، إلا أن هناك قاسمًا مشتركًا تلتقي فيه كل هذه اللقطات جميعها، ومن هنا، يمكن الجمع بين اختلاف الروايات، التي يبدو من ظاهرها التعارض، بيد أن هذا التعارض لا يلبث أن يزول إذا خرجت من هذا المخرج، ومثل ذلك يتحقق في الروايات المتعارضة ظاهرًا، في طول شعره، وصفة حاجبيه، وأنفه صلى الله عليه وسلم. يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله: "رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عند ربه بالمكان الذي نعرفه له، وهو عند المؤمنين به بالمكان الذي يرضى الله عن وجوده في نفوس من آمن به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يتكلم المنصفون عن صفاته الخَلْقية، إنما يتكلمون عن صدى ما استمالتهم صورته صلى الله عليه وسلم استمالة كانت قيد الناظر إليه؛ أي إن الناظر إليه كان يقيده كل حسن فيه، وما ذلك إلا لأن الطاقة الحُبِّيَّة والطاقة القلبية لا تجعلان لناظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معدى عن استدامة النظر إليه، والنظر إليه يعطي إشعاعات اليقين، ويعطي إشعاعات الإيمان، والدليل على ذلك أن مَن رآه صلى الله عليه وسلم كان صحابيًّا، ومعنى ذلك إن للرؤية الذاتية تأثيرًا في كيان المؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكون الواصفين له يدققون الوصف له في أدق الأشياء، يدل على أنهم لم يَفُتْهُم شيء من صفاته صلى الله عليه وسلم، وإن اختلف الواصفون في شيء فإنما هو اختلاف اللقطات، أو اختلاف التعبير عن اللقطات. فآلات التصوير - على سبيل المثال - حينما تصوِّر إنسانًا، فعلى قدرة جودة الآلة، وعلى قدر قدرة ومهارة مَن يستعمل هذه الآلة تخرج الصورة طبق الأصل، لكن الواصفين على كل حال يلتقون على أشياء، هذه الأشياء تميزه صلى الله عليه وسلم ببنية كاملة متكاملة، بحيث يكون للقلب منه غذاء، وللعين منه غذاء، وللأذن منه غذاء". محمد متولي الشعراوي، الشمائل المحمدية، ص3.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|